مها محمد الشريف
لقد أسرف الفلاسفة في تفسير بناء الإنسان، وتشريع الحرية له كحركة وفعل ومشروع وجوهر. كما أسرف البعض في النقد لمعنى الحرية ومفهومها، ولو ذكرنا أسماء الفلاسفة الذين تناولوا هذا الشأن لأصبح المقال كرنفالاً من الأسماء والألقاب، فمنهم من جعل الأمر مطلقًا، ومنهم من جرد الميول الذاتية ليحتل مكانًا عاليًا في موسوعة الحرية الشخصية، حتى ظهرت فكرة الذات الحرة والمتأرجحة بين العقل والواقع التي تحافظ على هويتها الشخصية شرط نيل مزيد من التحرر العقلاني في أبحاثهم وكتبهم.
لم يعد الإنسان ذاتًا مستقلة كما كان في السابق بل أصبح رهنًا للتقنية يحمل على كتفيه مشكلات عديدة، مستغرقًا في علاقته بها، ولا يعبأ بنتائجها، حتى فلتت الأمور عن السيطرة ودخل في متاهة الحوار العقيم وارتفعت نبرة الإسقاط والتطاول على سياسات كثير من البلدان، ففي منصة إكس «تويتر سابقاً» كثرت الحسابات التي تنتقد سياسة الدول وخصوصية الشعوب، ليصبح الأمر أشبه بواعظ متجول محرض للفتنة، فالأصوات التي تنادي بالحرية في المواقع تحدث جلبة فارغة خالية من المضمون والمحتوى، تجعلنا نتساءل هل هذه هي ثقافة الفرد في هذا المجتمع الذي عكف على تطوير ذاته ليحول عمله وصيًا على المجتمعات، وهل هذه هي حرية الرأي التي يعيشها؟.
يبدو أن ثمة غموضاً يلازم كلمة الحرية، بينما أطلقها العالم لأهميتها على مزار عالمي، منهم من جعلها تمثالاً، والبعض الآخر أطلقها على الأشياء العظيمة في بلاده، وطرقاتها ومتاحفها، ومنهم من جعل الحرية سيادة واستقلالاً لدولته ومواطنيه. من الجلي أن كل إنسان ينظر إلى الحرية من منطلق شخصي، وأن آلية التعريف التي يعتمدها المحرض على قيود الحرية ليست إلا قمعًا للحقوق، ونشرًا للعزلة، والتعارض اللامسوؤل مع طبيعة الحرية الاجتماعية والتعبير عن الرأي، وجوانب أخرى فكرية، وسياسية واجتماعية واقتصادية، في وقت كانت حرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر، وحررت كثير من المغالطات من عمق التفاوت والآراء، وجعلت لكل تطور هوية وعلاقة حرة، واختارت نواة لكل طموح يسعى لها المجتهد والباحث، وسخرت الرغبات إلى جدوى وفاعلية تعود بالنفع على الفرد والمؤسسة.
الحرية ليست تمردًا وخروجًا عن دائرة الأدب، وليست مساحة للجدل والصراخ في جميع الاتجاهات، العالم اليوم الذي تجاوز عامل الزمن لم يتخط حداثة التطور، ولم يستطع أن يخلق حاضرًا أفضل يكتسب فيه الفرد حرية أكبر. بل تراجعت حريته إلى الوراء بمفاهيم أقدم وأعتق. ووجد نفسه قيد منظومة مختلفة الشكل والتأويل تفتقد في نهاية المطاف إلى عقلنة الأزمات وحجم المسؤوليات، وعليه أن يستثمر الفرص المتاحة لإعادة النظر في الأخطاء التي ارتكبها مهما تفاوتت الأفكار والقناعات؛ لأن التمييز بين الخطأ والصواب واجب تفرضه عوامل كثيرة ومنها التمدن والتحضر، لكي يعتاد المدنية، ويصبح جزءًا فاعلاً في كيان المجتمع الذي تستمر به الحياة، وإيجاد الفرص بحد ذاتها لتعطي الفرد قدرًا كبيرًا من حرية الاختيار واحترام الآخر.