عبدالوهاب الفايز
تسجيل محمية عروق بني معارض كأول موقع للتراث العالمي الطبيعي على أراضي المملكة ضمن (قائمة اليونسكو للتراث العالمي) كان حدثًا وطنيًا وعالميًا.
بعد تسجيل جزيرة فرسان في قائمة الإنسان والمحيط الحيوي، دخول محمية جديدة يؤكد اهتمامنا الجاد في البيئة، ويقدم صورة إيجابية للقيم الدينية والحضارية والإنسانية التي تؤمن بها بلادنا، وهي قيم مواكبة ومستوعبة وسابقة للقيم العالمية التي ترعى حقوق الإنسان والحيوان والطبيعة. ومحمية بني معارض هي أيضًا رصيد ثقافي عالمي بحكم قربها من موئل الحضارات والممالك القديمة، وبحكم موقعها على طريق البخور واللبان، وقربها من (الفاو) التي تنتظر الإدراج في قائمة اليونسكو بحول الله.
هذا الحدث يقدم (قصة نجاح) لمنظومة البيئة في المملكة، وهو ثمرة لنجاح الجهود التي يبذلها (المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية)، والأهم - في تقديري الخاص - هو نجاح للمواطن السعودي الذي أدرك أهمية حماية البيئة وضرورة تنميتها والعمل على استعادة العلاقة الحميمية مع كل مكوناتها. واهتمام الناس لمسناه من خلال متابعة اجتماعات الدورة السنوية الخامسة والأربعين للجنة التراث العالمي، التي استضافتها الرياض خلال الفترة من 10 - 25 سبتمبر الماضي.
في اجتماعاتها المكثفة، راجعت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو الترشيحات لعامي 2022 و2023، وكان هناك نحو 50 موقعاً مرشحاً للدخول في القائمة التي تتسابق إليها الدول نظراً للقيمة الحضارية والاقتصادية التي تجنيها، بالذات للقطاع السياحي. اجتماع الرياض الأخير تزامن مع مرور 45 عاماً على إطلاق اليونسكو لقائمة التراث العالمي.
في قطاع البيئة، عندما تسجل بلادنا قصص النجاح العالمية فهذا يأتي بعد جهود مكثفة ومتعبة، فتسجيل المواقع التي لها بعد عالمي مثل المواقع الأثرية والتاريخية يتطلب تحقيق معايير علمية صارمة. اليونسكو تشترط أن تكون المواقع ذات (قيمة عالمية استثنائية) حتى يتم إدراجها في قائمة التراث العالمي. وهذا الذي يعطيها الأهمية التي تتجاوز الحدود الوطنية، إذ تصبح ذات أهمية مشتركة للأجيال المعاصرة والمقبلة للبشرية.
إدراج المواقع في قائمة التراث يتطلب أموراً فنية تنفيذية ضروري الالتزام بها، والاشتراطات للتسجيل متعددة وصعبة. اليونسكو وضعت معايير عدة للدخول في القائمة، منها:
(أولاً، أن تحتوي ظاهرة طبيعية متفردة أو مناطق ذات جمال طبيعي استثنائي. كما يجب أن تكون من الأمثلة البارزة التي تمثل نظم بيئية وأنواع خاصة من النباتات والحيوانات الفطرية. كذلك يجب أن تحتوي على أهم وأكبر الموائل الطبيعية لحفظ التنوع الأحيائي بالموقع، بما في ذلك الأنواع المهددة بالانقراض وذات القيمة العالمية الفريدة. أيضًا تشترط أن يضم الموقع المعالم الطبيعية المتشكلة من التكوينات الفيزيائية أو الأحيائية التي لها قيمة عالمية استثنائية. كما يجب أن يضم الموقع تكوينات جيولوجية فريدة ومناطق تشكل موائل لأنواع حيوانية ونباتية فطرية لها قيمة عالمية استثنائية. والمعيار الأخير أن تعبر عن المراحل الرئيسية من تاريخ الأرض وسجل الحياة، والعمليات الجيولوجية لتطور التضاريس وملامح شكل الأرض).
المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية أمضى عامين ونصف العام يخطط علميًا وفنياً للتسجيل، مستفيداً من قصص النجاح المماثلة لكي ينجز الشروط المطلوبة لإعداد بني معارض لتكون (محمية نموذجية) يُطبق فيها المعايير العالمية للمحافظة على الحياة البرية. مثلاً، هذا تطلب إعادة تدوير المياه في مراكز الجوالين، واستخدام الطاقة الشمسية، واستخدام طائرات الدرون لتخفيف استخدام السيارات. أيضًا ولمتابعة حياة الحيوانات يتم استخدام الكميرات الخفية المثبتة والموزعة في المحمية لتقليل الحركة داخلها. تحقيق كل هذه المتطلبات سرَّع التسجيل.
وهذا النجاح في تحقيق الشروط فنيًا على الواقع يقدم (تجربة نجاح سعودية) يمكن الاستفادة والتعلم منها، وستكون فرصة لبلادنا لتقديمها في المحافل العلمية الدولية، كما قدمت تجربتها الفريدة لإعادة توطين الفهد العربي (الفهد الصياد). وكذلك تجربتها مع المها العربي لإعادة توطينه وإكثاره في البرية.
إدراج المواقع في قائمة التراث يجعلها ثروة لبلادها وللبشرية بسبب القيمة الاستثنائية والصفات الفريدة للموقع. وهذا يستدعي حمايته من الأخطار والعبث، مع الصيانة المستمرة. الإخفاق في المحافظة عليه ربما يؤدي إلى إخراجه من القائمة، وهناك مواقع تم سحبها من القائمة.
يبقى السؤال الذي يهمنا هو: كيف نحقق الاستفادة من هذه المحميات، حتى نطورعلاقة الإنسان مع البيئة، وحتى نحول الأنشطة البيئية إلى مبادرات للسياحة البرية تحقق الاستدامة المالية للمحميات، وتتيح لنا الاستمتاع بطبيعة بلادنا، وتهيئ الفرصة للأنشطة البدنية التي تحتاجها الصحة العامة، مثل رياضات المشي الطويل والمخيمات البرية. كيف نحقق القيمة الاقتصادية المضافة للبيئة؟
السياحة البيئية تعد من أبرز الأنشطة التي سوف تتيحها لنا المحميات، وهذا يتحقق عبر توفير خدمات سياحية مستدامة مثل الرحلات التعليمية وركوب الخيل والتسلق والتخييم. هذا يعزز - بشكل غير مباشر- الوعي بالبيئة ويعزز استدامة المحميات الطبيعية. كذلك يساعد على تطوير نشاطات داخل أو بجوار المحميات، مثل إنشاء مراكز الزراعة العضوية، ومحلات بيع المنتجات الحرفية المحلية. هذا يدعم المجتمعات المحلية اجتماعياً واقتصادياً، من الأنشطة ذات القيمة المضافة برامج البحث والتطوير للتعرف على الأصناف النباتية والحيوانية الفريدة وتطوير منتجات الأدوية العشبية.
أيضًا يمكن إنشاء متاجر صغيرة لبيع منتجات محلية مصنوعة من المواد المتوفرة في المحمية، مثل الحرف اليدوية والمنتجات الغذائية المحلية. كذلك المزارع العضوية توفر الأنشطة المستدامة داخل المحميات، حيث تتيح زراعة المحاصيل العضوية وتربية الماشية وفقاً لمعايير الاستدامة البيئية.
أيضًا يمكن تطوير خدمات الرحلات والتوجيه السياحي في المحمية، مثل جولات الطبيعة ورحلات المشي لمسافات طويلة ورحلات ركوب الدراجات الجبلية، بحيث يتم استكشاف المحمية بشكل مستدام ومسؤول. كذلك يمكن تنظيم فعاليات اجتماعية مثل المهرجانات الثقافية والمعارض المحلية والفعاليات الرياضية، وهذا يعزز التواصل بين زوار المحميات والمجتمع المحلي القريب منها. ولا ننسى أنشطة التعليم والتدريب، فالمحميات توفر الأماكن المثالية لتنظيم برامج تعليمية وتدريبية لتعزيز الوعي البيئي والتربية البيئية، مثل ورش العمل والمحاضرات ومعسكرات التدريب.
بيدنا قيمة حضارية واقتصادية لعلنا نتمكن من تعظيم الاستفادة منها. وهذا هو التحدي الحقيقي حتى لا تبقى المحميّات مجرّد كيانات بيئية مكلفة.