محمد نديم أنجم بيديا
تنخرط نقوش المشاهد التفاعلية الرقيقة بين أعظمية الهوية الذاتية والوعي الجماعي الثقافي في نسيج مطرز بالمراحل الوجودية الإنسانية. كما يزدان عالمنا بفسيفساء من تفنن الثقافات وتنوع الأعراف السائدة، حيث إنه يعد بمثابة لوحة فنية فيها تصوغ شظاياها تصاميمَ مثلى للإنسانية. كذلك غالباً ما يتعرض ما طُبعت عليه جواهر المجتمعات المحلية للانقراض الذي تنتجه هاوية التطرف ما تتوعَّد بكل ما تعتمد عليه الحضارات المشتركة في جوهرها. إنه في الشبكة المعقدة من الوجود، حيث تملي علينا الحاجة المقنعة تطبيقَ الاعتدال - التوازن المثالي، ما سيستنقذ الحضارات الإنسانية من أصولياتها. وإذا نتخيل كنفاسا مرسوماً بخطوط جريئة من التطرف، حيث تتصادم ألوان الحماسة بهدف تعتيم الخطوط بين العاطفة والتعصب، سننتهي إلى نقطة ساخنة أنه كنفاس يتخطى الحدود وينبسط على مدى القارات والثقافات في الكون. والحالة هذه، يتشوه النسيج الإنساني، إذ تستبد أصوات التطرف المقيت على الألحان المتناغمة من التعايش السلمي، مما يفضي إلى استحالة صهر أهل الأرض في بوتقة ثقافية واحدة.
فترتسم أمامنا من بين تنافر الضوضاء نظرية الاعتدال فرشاةً حيوية تمزج أشكال التنوع الحيَّة بكيان متناغم بنعومة مطلقة. إنها تمكن من استكشاف الفروق الدقيقة في الهوية الذاتية بحيث يحسن بنا احتضان ثراء الاختلافات، سواء أكانت الاختلافات ثقافية أم اعتقادية، دون الانزلاق إلى المغالاة التي ترافق رغبة التعبير عن الهوية الذاتية. وهذا مما تمخض عن أمس الحاجة إلى أن نأخذ بعين الاعتبار مظاهرَ التطرف التي تعصف بهوياتنا الثقافية، حتى ندرك مقدار الأخطار الجسيمة التي تتربص بالإنسانية المعاصرة.
وثمة ثلاثة أعمدة أساسية في صالة ضخمة الحجم من الاعتدال، وكلها تخاطب قضايا معاصرة مثيرة للجدل بنعمة فنان ماهر يتمثّل في نظرية الاعتدال.
أما العمود الأول منها فهو يبدو صورة زاهية للهوية الذاتية وتحفة فنية تحتفي بفرادة كل الأفراد. لكن في هذا الشأن تعود القضية الخلافية الأولى في المجمل إلى تعريف هوية الإنسان وتحديد عناصر جوهره الأنثروبولوجي، حيث تصعقنا اللوحة الغربية التطرفية فيما يغامر الانكباب على التعبير الذاتي بين الآونة والأخرى في عالم التطرف والتعصب، مما يشوِّه الأشكال الطبيعية التي تتطبع عليها ماهية الذكورة والأنوثة وذلك إنما أضحت المذاهب اليسارية المتطرفة تنكر على الكائن الإنساني حقه في التنعم بما انفطر عليه كيانه البيولوجي من قوام أصلي. وتحتار عقولنا، والحال هذه، فيما نتعرض لتطبيق القوانين واللوائح الغربية التي تحظر على الأهل معاينة جنس أطفالهم ومعاملتهم بحسب ما نشأت عليه ذكورتهم الأصلية وأنوثتهم الأساسية والتي تحرم قبول هبة الاصطفاء الجنسي الطبيعي العفوي في هوية الكائن الإنساني. وتقابل هذا الموقف الشرقي اللوحة الغربية التطرفية، حيث تأخذ فظاعة التقاليد الشنيعة والأعراف المهيمنة بخناق إنماء ذاتي ووجداني في حين تستهدف بعض المجتمعات الشرقية الآسيوية إلى قمع الحرية الكيانية التي تسوغ لكافة الأفراد أن يرتقوا بشخصيتهم ارتقاء يعارض ما اعتنقته هذه المجتمعات من معتقدات سائدة وما انطبعت عليه من رسوم مجتمعية قاهرة. فثمة تتراءى لنا من بين المغالاة الشرقية والغربية اللوحةُ الاعتدالية التى تستتبعنا أن نعتصم بحبلها، إذ إنها تدعم التوازن بين احترام الهوية البيولوجية الجوهرية وصون الحرية الكيانية. ومن هنا تزدهر رغبة الهوية تتحرر من أصفاد التطرف والمغالاة.
وفيما نمضي إلى القضية الثانية التي تدور أبعاد موضوعها حول حرية المعتقد، فتنطبق علينا أسطوانة الاعتدال تشيّد مسرحاً خلاباً، حيث تمتد حرية الرأي والتفكير على مدى البصر إلى آفاق متوائمة. ما برحت المجتمعات الغربية تتوهج في وهج الحرية الفكرية المطلقة التي تفسح المجال لكل واحد منا للتعبير عن اقتناعاته بارتياح تعبيراً ينتهي ببعض الأفراد إلى مستوى من الاستهتار والاستخفاف يبلغ به إلى إهانة الرموز الدينية المقدسة. وتعاكس هذه المبادئ البقاع الشرقية الآسيوية في حين تلج في أن تحاذر الحرية الاعتقادية فتنصرف عن النقاش الفكري الحر وتنغلق عليها الأصوات الإصلاحية التي يصرخ بها أهل الاستنارة العقلية المزينة بأزكى النيات وأصفاها. فأخص بالذكر في هذا النطاق اقتلاع جذور الحرية التي تستهين بمعتقدات الآخرين وانتزاع أيادي الاستبداد التي تعتقل الحرية الفكرية حتى يتسنى لنا التعايش في عالم تتواجد فيه حرية التعبير مع احترام العقائد المشتركة في وئام.
وأما فيما يختص بآخر عمود الاعتدال فهو يشبه صورة فنية تجسد جواهر الأنوثة، حيث إنه يتعامل مع القضية التي تجعل النساء تقفر من زينة الأنوثة والأمومة في الأزمنة المعاصرة. كما لا يغمض على أحد من أهل الاطلاع، الإسراف الذي تقع في حبائله المجتمعات الغربية، وقد طفقت تمكن المرأة حتى تطلق العنان لحريتها من كل ما يقيدها، مما ترتب عليه أن يصل هذا التحرّر إلى درجة من الإلغاء الكياني تؤدي بالمرأة إلى رفض أنوثتها وطرد رقتها وأمومتها أي تنحية دعوتها الوجودية وخصوصيتها الرسالية، كما تأخذ الحرية الجنسية تتحول إلى تعطيل الهوية الأنثوية تعطيلاً يجعل المرأة تتصرف تصرف الرجل. وفي سياق مواز يعارض هذا المنظور الغربي تصوراً ثقافياً شرقياً آسيوياً يحبس المرأة في أحكام فقهية وأعراف مسلكية لا تليق بكرامتها الإنسانية الأصلية. فتنطلق من بين الغلو الغربي والتصلب الشرقي ألوان الوسط الفضائلي الاعتدالي التي يجدر بها التقيد، وذلك نظراً إلى كفاءتها في المحافظة للمرأة على حقيقتها الأنثروبولوجية الفريدة وإعتاقها من أغلال الاستعلاء البَطريكي الذكوري.
وفيما نخوض في ساحة المعركة بين أفضلية الهوية الذاتية واعتناق الوعي الجماعي فلا بد أن تتجذر عناصرنا الفكرية بعمق في كيفية تطبيق فن الوسطية كما أنها نغمة الحياة التي توحّد القلوب في حفلة موسيقية من العواطف المتبادلة وخيوط المطر التي تولد الزهور في مهجة شجرة يابسة وكاللؤلوة في محارة البحر التي تضيف الجمال والأناقة في كرنفال الحضارات الإنسانية وكالشمعة التي تنير الدروب في ليالي ليلاء تغشاها وعورة التطرف وخطورته.
** **
الجامعة العالية - كولكتا، الهند