د.عبدالله بن موسى الطاير
أي دارس للمجتمعات البشرية والعلاقات التي تتشكّل بين الناس، والقوى الاجتماعية التي تؤثّر على السلوك البشري، والهياكل الاجتماعية التي تُخّلق حياتنا، وتتماوج على ضفاف التغيير السريع في هذه الحقبة، لن يجد أفضل من المجتمع الأمريكي حقلاً للدراسة والتجارب، فهي دولة مؤسسات ضخمة، وتتمتع بحريات مكفولة دستورياً تجعل خلافاتها المجتمعية والثقافية والقيمية ناهيك عن السياسية حالة عامة، يلاحظها الداخل والخارج دون تورط أجهزة قمعية بفرض استقرار وتناغم مصطنع.
ليست أمريكا بأحسن حال، فهي منقسمة على نفسها؛ فالبلد الذي يُعلِّم العالم حرية التعبير، وأن الاختلاف في وجهات النظر لا يفسد للود قضية، وأن الرأي والرأي الآخر أحد مظاهر حرية التعبير والتعايش بسلام داخل المجتمع، لم يعد كذلك. يندر إن لم يتعذر أن تشاهد رأياً في القنوات الليبرالية المعروفة يدافع عن الجمهوريين، أو أن تجد على قناة فوكس من يلتمس العذر للديموقراطيين. التحزب والاستقطاب وصل حداً منذراً بالخطر، وهو يتصاعد في حدته كلما اشتد التنافس الانتخابي. الانقسام يتسع أفقياً ورأسياً، فالنخب المكونة من الأشخاص الذين لديهم الكثير من القوة والنفوذ في المجتمع، كالسياسيين وقادة الأعمال والمشاهير والأكاديميين منقسمون، ولديهم قيم وأولويات مختلفة عن الأشخاص العاديين. عامة الشعب الذين لا يتمتعون بقوة النخب للتأثير في المجتمع كالعمال والطلاب والمتقاعدين منقسمون أيضاً على قضايا مثل السيطرة على السلاح، والمثلية، والهجرة، وعدم المساواة في الأجور والفرص، ولعامة الشعب أولوياتهم وقيمهم المختلفة عن النخب. الانقسام الحالي سواء فيما بين النخب أو عامة الناس أكثر وضوحاً، بسبب عدد من العوامل كصعود وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع الثقة في المؤسسات، وتزايد وتيرة التغيير.
ليس الانقسام جديداً على أمريكا فهي كذلك منذ تأسيسها؛ اندلعت الثورة الأمريكية بسبب الانشقاق بين أولئك الذين أرادوا الاستقلال عن بريطانيا العظمى وأولئك الذين أرادوا البقاء مخلصين للتاج الملكي، كانت الحرب الأهلية المظهر الأكثر تعبيراً عن حدة الانقسام في التاريخ الأمريكي، حيث اندلعت بسبب عدم الوصول إلى أرضية مشتركة حيال العبودية، وأسفرت عن مقتل أكثر من 600 ألف أمريكي، وهي ما زالت حاضرة في ذاكرة الأمريكيين، ولا يخشون من التلويح بها. أما في الستينيات فقد كانت أمريكا منقسمة حول حرب فيتنام وحركة الحقوق المدنية، لم تكن الحرب تحظى بشعبية بين الأمريكيين، وأدت حركة الحقوق المدنية إلى الاحتجاجات والعنف. ومنذ عام 2009م أصبحت أميركا منقسمة على نحو متزايد على أسس حزبية؛ الديمقراطيون والجمهوريون مختلفون على المستوى الإيديولوجي وتتسع الفجوة بينهما، وتلعب الشعبوية وشبكات التواصل الاجتماعي دور المحرك لهذا الانقسام، وهو ما يجعل من الصعب على الطرفين التوصل لتسوية.
العارفون بالمجتمع الأمريكي يؤكدون أنه على الرغم من تاريخها الحافل بالانقسامات، تمكنت أمريكا دائماً من التغلب على وضعها من خلال التسويات، إذ يتمتعون بتقليد راسخ في هذا المجال، ويستشهدون بالطريقة التي تمت بها كتابة الدستور، والنهج الذي حكم البلاد على مر السنين. يضيف الواثقون بقدرة أمريكا على التغلب على ظروفها وصفة الكياسة والحكمة والاحترام المتبادل بين الأمريكيين، ويتجلى هذا في الطريقة التي يتفاعل بها الأميركيون مع بعضهم البعض، حتى عندما يختلفون. لكني أعتقد أن هذا النهج في رأب الصدع كان فاعلاً قبل أن توسع شبكات التواصل الاجتماعي رقعته ليشمل كل الناس، ويسلحهم بأدوات لتأجيج حدة الخلاف القيمي والإيديولوجي. إلا أن الوطنية وحب الأميركيين لبلادهم تجعلهم مستعدون للعمل معاً من أجل الصالح العام، ويستشهد على نجاح هذا العامل بالطريقة التي استجاب بها الأميركيون للأزمات، مثل إنهاء الحرب الأهلية، والحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى أقول إن تلك الاستجابة سابقة على عصر شبكات التواصل الاجتماعي.
هل ستؤثّر حدة الانقسام على مكانة أمريكا، وقيادتها للعالم وبين منافسيها. بكل تأكيد، ذلك أن الخلاف بين الحزبين يضعف قراراها، ويوجد ثغرات يستفيد منها منافسو أمريكا في تعظيم مصالحهم أو إلحاق الضرر بمصالح أمريكا، لكن البون الشاسع بين أمريكا ومنافسيها عسكرياً واقتصادياً يجعل ما يتحقق من منافع للمناوئين لأمريكا، أو ما تتعرض له من خسائر ضمن المقبول وغير المقلق، لكنه على المدى البعيد سيثخن في قوة أمريكا ونفوذها. ولذلك تعكف مراكز الدراسات، ومؤسسات المجتمع المدني، والعقلاء غير الحزبيين على دراسة الظاهرة، وتقديم الحلول، وترشيح الآليات المناسبة لتجاوزها أو على الأقل لتحييد أثرها على التعايش السلمي وقوة ونفوذ أمريكا في قيادة العالم.