عبدالرحمن الحبيب
سحبت مجلة تابعة لدار النشر الأكاديمية العلمية «سبرينغر نيتشر»، دراسة نشرتها العام الماضي واستندت إليها وكالة فرانس برس، بعدما تبيّن أن ما خلصت إليه بشأن تبعات التغير المناخي مضللة لأنها انتقت واجتزأت بانحياز بيانات متعلقة بالتغيرات المحتملة (الحرارة، الأمطار، والأعاصير، الجفاف..) مما يدعم وجهة نظر مسبقة تُكذِّب تغير المناخ، ونشرها وقتئذ أربعة علماء إيطاليين في مجلة «الفيزياء الأوروبية» العلمية، وقد وجدت الدراسة صدى إيجابياً في وسائل إعلام تشكك في تغير المناخ.
في كتاب صدر مؤخراً عنوانه «الببغاء وكوخ الإسكيمو» وعنوان فرعي «المناخ وعلم الإنكار»، لمؤلفه الأديب والصحفي ديفيد ليبسكي حيث حوَّل قضية تغير المناخ من موضوع ممل وكئيب إلى عرض تاريخي لتطور إنكار المناخ بأسلوب ترفيهي مشوق ومميز بقالب كوميدي تراجيدي مع الحفاظ على موضوعية الطرح، لكي يكون الكتاب سهل القراءة للعموم.. الببغاء هنا كناية عن المنطقة الاستوائية التي تعيش فيها الببغاوات، إنما مع الاحتباس الحراري سيتحول الإسكيمو إلى منطقة دافئة في مبالغة طريفة.
هذه المبالغة لم تكن من بنات أفكار المؤلف، ففي عام 1956، تنبأت صحيفة نيويورك تايمز أنه بمجرد بدء ظاهرة الاحتباس الحراري، يمكننا رؤية الببغاوات في القطب الجنوبي. وفي عام 2010، عندما سيطر منكرو العلم على قصة المناخ، قام السيناتور جيمس إنهوف وعائلته ببناء كوخ إسكيمو في مركز واشنطن التجاري ووضعوا لافتة في الأعلى: منزل آل جور الجديد: اطلق بوقاً إذا كنت تحب تغير المناخ.
«لقد أحدثت هذه القصة ثغرة في حياتي. الآن حان دورك». كما يقول المؤلف، معيداً سرد تاريخ قصة المناخ بأكملها، من اختراع الكهرباء إلى آخر تطوراتنا الحالية. البداية بقصة ثلاثة مخترعين (توماس إديسون، وجورج وستنجهاوس، ونيكولا تيسلا) الذين صنعوا عالمنا التكنولوجي، دون أن يعرفوا ما الذي حركوه، ولكن هناك علماء لم يسمع بهم معظمنا الذين دقوا ناقوس الخطر مثل روجر ريفيل، عالم المحيطات ورائد دراسة المناخ الذي افترض، في وقت مبكر من الخمسينيات، أن إطلاق الكثير من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي يمكن أن يؤدي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري. وشخصيات مثل جيم هانسن، عالم المناخ في وكالة ناسا والملقب بـ «بول ريفير مسؤول الانحباس الحراري العالمي»، الذي شهد أمام الكونجرس عام 1988 بأن عصر الكوكب الأكثر سخونة قد وصل.
بالمقابل، يحذر المؤلف، من أن هناك وكلاء الإعلانات، وغريبي الأطوار الذين كذبوا بشأن هذا العلم، وقاموا بتضليل الجمهور بإنكار ظاهرة الاحتباس الحراري وأنفقوا على مدى عقود من الزمن أموالاً طائلة على العلم الزائف والشعارات الجذابة المغرية على حساب سلامة الكوكب.. لقد كان المنكرون دائماً يستخدمون لغة أكثر إثارة، ويدفعون ثمنها بسخاء.
كتب ليبسكي: نحن عادة نفكر في ظاهرة الانحباس الحراري العالمي باعتبارها علّة حديثة بدأت في حياتنا، إلا أن عالم كيمياء سويدياً أدرك لأول مرة أن حرق الفحم من شأنه أن يؤدي إلى تدفئة الكوكب في تسعينيات القرن التاسع عشر، ومن المروع أن نعرف أن الناس كانوا يقرؤون عناوين الصحف الأمريكية حول الحرارة غير المسبوقة في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن العشرين. وبطبيعة الحال، تظهر جميع الرسوم البيانية المناخية الحديثة أن الخط الأحمر قد تسلل بحلول ذلك الوقت. بالنسبة لهم كان الأمر غير مسبوق آنذاك، فتخيل لو كان بإمكانهم رؤية الصيف الآن. أيضاً، في منتصف القرن العشرين، نظر عالم المحيطات روجر ريفيل في كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من حرق الوقود الأحفوري آنذاك، واقترح، وفقاً لمجلة تايم، أنه «قد يكون له تأثير عنيف» على مناخ الأرض، وربما نتجه نحو ظاهرة «الاحتباس الحراري».
لكن كيف انقضى كل هذا الزمن المديد من تلك التحذيرات الواقعية المبكرة دون انتباهنا؟ كيف تحدث كل تلك الوقائع من حرائق الغابات وارتفاع الحرارة وجعلها تخترق القلوب والعقول؟ يجيب المؤلف بأنه التسويق الجيد، فمثلاً في عام 2002 تقريباً، شجع منظم استطلاعات الرأي الجمهوري فرانك لونتز المرشحين على استخدام مصطلح «تغير المناخ» للتقليل من النبرة الكارثية لظاهرة «الاحتباس الحراري»، وهي العبارة التي كان العلماء يستخدمونها. لقد أراد أن يبدو الأمر أشبه بتحول طبيعي محايد، أو المعادل المناخي للقيام برحلة برية من مدينة باردة إلى أخرى دافئة. شعر لونتز بالندم على ذلك، لكن المصطلح بقي عالقاً. ولكن بقدر ما يكون تسويق الإنكار جذاباً، فإن المؤلف يواجهها بنفس القدر من الجاذبية.
يكتب ليبسكي: «إن علم المناخ عبارة عن قاعة للمفارقات». «إنكار المناخ هو الزجاجات المكسورة ورائحة الإطارات المحززة في موقف السيارات. إنهم العلماء الذين لم تتم دعوتهم إلى الداخل مطلقاً». وينتهي بتذكير آخر بأن العلماء الحقيقيين حذرونا من تغير المناخ منذ وقت طويل. لقد صرخت فينا مجالس التحرير لكي نتخذ الإجراءات اللازمة منذ ستينيات القرن الماضي. ربما تكون افتتاحية صحيفة واشنطن بوست حول تغير المناخ منذ عام 1965 قد كتبت بالأمس: «إن قدرة البشرية على حماية نفسها من غير المرجح أن تكون محدودة بسبب المعرفة غير الكافية، بقدر ما تكون بسبب عجزها عن تحويل المعرفة إلى عمل عام فعَّال».