أحلام العامري
يستطيع الإنسان بناء ناطحات السحاب وهدمها.. التحليق إلى السماء والقفز منها.. عبور المحيطات والغوص فيها.. الولوج إلى عتمة الفضاء واكتساح غموضه.. الوصول إلى سفوح الجبال والتقاط صورة كمنتصر.. ولكن لن يستطع تغيير فكرة واحدة زرعت في عقل إنسان آخر. ناهيك بالعقل الجمعي وانقياد مجموعة من الناس حول رأي معين أو فكرة أو موقف، لأنهم تحت وطأة الوحدة العقلية داخل المجتمع.
إن من مهارات التسويق الناجحة، استخدام ثقافة العقل الجمعي، كما فعلت إحدى الشركات عندما أفرغت قنّينات منتجهم وألقت بها في الحاويات وأرصفة المارة في محاولة لنحت العقول كما يُنحت الطين؛ ما دفع الناس إلى شرائها وعليه ارتفعت المبيعات في مدة وجيزة بحيلة تسويقية بسيطة، هذه إحدى القوى الخارقة لهذا الاتحاد العقلي، ولهذا نجد أنفسنا نقتنع بالأكثر مبيعًا، وتجذبنا الأماكن المزدحمة، وتصيبنا حمى الـ(Trends).
ولكن هناك تأثيرًا سلبيًّا لهذا الاتحاد العقلي، وهو أشبه بالغيبوبة التي تطفئ الحواس وتشل الجسم وتودع العقل إلى سرداب مبهم، وتبقى الروح عالقة فقط. وهكذا تظل بعض العقول عالقة في فكرة ما وتمضي وهي تجر الألباب من حولها نحو ذلك، السرداب، كالخيوط العالقة الملتفة حول نفسها. إن التصورات الخاطئة في المجتمع ما هي إلا نتاج العقل الجمعي الذي أصدر الحكم المؤبد في محكمة الاتحاد العقلي.
تكمن المشكلة في أننا نكون مذعنين لهذا التأثير، ونتخذ قرارات تلقائية دون وعي، ولكن ماذا لو شذ شخص وحاول اقتحام لب العقل؟ ماذا لو تأمل الندب غير المرئي وحاول نكأه؟ ماذا لو قرأ القصة من الفصل الأخير وحاول لف الشريط إلى الخلف، ماذا لو وجد الفكرة الضالة وجردها وأثار التساؤلات؟ ماذا لو أعادها إلى سيرتها الأولى؟ صحيح.. سيكون بالاتجاه المعاكس لطواحين الهواء.. سيبحر في المياه المضطربة.. ولكن هل سيسحق؟ كلا.
إن أكثر ما نحتاج إليه وسط هذه الموجة الهائجة هو وقفة مع الذات والتنقيب في خبايا العقل، وانتشال الأفكار من ذلك المنفى وإيقاظ العقل المعرفي من سباته، وأيضًا نحتاج إلى مهارة (التفكير الناقد) قبل اتخاذ القرارات وإبداء الرأي أو إطلاق الأحكام قد يكون التفكير الفردي هو البيدق الأقوى في حياتنا، كما حدث في قصة حريق غابات (جبال مان جولتش) مع قائد فريق إطفاء حينما قرر إشعال النيران أمامه حتى ينفذ بجلده من ألسنة اللهب بدلًا من إخمادها وما كان من أفراد الفريق إلا أن رفضوا الانصياع لقائدهم بحجة أنهم تدربوا على الإطفاء فقط، وإن ما يأمرهم به ضرب من الجنون. وفي النهاية، لقوا حتفهم في حين نجا القائد (واجنر دوج)، فقط لأنه تحرر من منفى العقل الجمعي.. الرحلة فردية عزيزي القارئ، وأحيانًا فردية العقل.. طوق النجاة.
وقبل أن أغادرك أيها القارئ، أضعك أمام عبارة أبو نواس عندما سُئل: أيهما أكرم في تشييع الميت السير أمام النعش أم خلفه؟ فقال: لا تكن داخل النعش وسر حيث طاب لك المسير».