عبدالوهاب الفايز
في حوار سمو ولي العهد الموسَّع مع (قناة فوكس) وردت أمور حيوية تهمنا في الداخل، وتهم شعوب المنطقة، وتهم العالم أجمع. تهمنا حتى نستكمل تنفيذ مستهدفات برنامج رؤية المملكة، وتهم المنطقة لأن المملكة قررت أن تكون نموذجاً وقاطرة للتنمية الاقتصادية، وهذا يحتاج إلى السلام والاستقرار، ويهم العالم لأن المملكة لها مكانتها الروحية في العالم الإسلامي، ولها مكانتها الحساسة للاقتصادي العالمي بحكم قدرتها على إدارة مصالح الطاقة بما يخدم الشعوب المنتجة والمستهلكة.
يقول سمو ولي العهد: (نتطلع أن تنعم المنطقة وكافة دولها بالأمن والاستقرار لتتقدم اقتصادياً). واستكمل سمو ولي العهد، أنه لكي نحقق أهدافنا في المملكة يجب أن تكون المنطقة مستقرة.
التحديات لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ليست سهلة، فمشاكله ليست قريبة، فالقرن الماضي كان حافلاً بالصراعات والحروب.. وحتى الآن نرى مناطق عديدة ملتهبة وأخرى تكبلها الكوارث الطبيعية، وسيكون معجزة للشعوب والقادة إبعاد القوى العظمي عن التحكم في شؤون المنطقة الداخلية.
إذا استطاعت المملكة قيادة المنطقة لمشروع سلام وتنمية وتعايش رغم صراع القوميات، وأطماع الدول الكبرى، فهذا إنجاز كبير ليس لشعوب المنطقة بل للعالم إجمع. الجميل أن هذه الرغبة لاستقرار الشرق الأوسط تأتي بعد مرور مئة عام على اكتمال بناء الاتفاقات والتسويات السرية لمعاهدة (سايس بيكو). ففي العام 1922 اكتملت مشاريع احتلال وتقسيم المنطقة، وهذه الاتفاقات السرية للسلام -كما أشاعوا وقتها- هي التي (أنهت السلام) طيلة قرن في المنطقة، كما يقول دافيد فرمكن في كتابه التاريخي الممتع (سلام ما بعد سلام)، وهي الفترة نفسها التي يعتقد فرمكن أنها شهدت ذروة اللعبة الكبرى وذروة الصراع مع روسيا القيصرية. وفي رأي فرمكين، بسبب روسيا، قررت بريطانيا وفرنسا احتلال الشرق الأوسط وتقاسمه، وبسبب روسيا أعلنت وزارة الخارجية البريطانية جهارًا تأييد بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكانت روسيا بالمفهوم الأوسع لـ (اللعبة الكبرى) تلعب دورًا مركزيًا في الصراع على الشرق الأوسط. الآن.. بالإضافة إلى المعسكر الغربي، يضاف إلى روسيا الصين والهند!
الذي نرجوه أن يكون الأوربيون ومعهم الأمريكان قد وصلوا إلى قناعة بأن رسالة الغرب التاريخية - أي تقرير المصير السياسي للشعوب الأخرى في الكرة الأرضية، وضرورة (تمدينها وتغريبها) - قد وصلت إلى نهايتها. إذا لم تتوفر هذه القناعة يصعب مواجهة التحديات. نحن نتفهم الأسباب التي تجعل القوى العظمى تهتم في كثير بالمنطقة. موارد الطاقة كانت العامل الرئيسي لهرولة القوى الاستعمارية المحتلة. احتياطيات المنطقة الهائلة من النفط والغاز الطبيعي تجعلها مصدراً حاسماً لإمدادات الطاقة العالمية. الدول الصناعية الكبرى يهمها ضمان الوصول إلى هذه الموارد لتغذية اقتصاداتها والحفاظ على أمن الطاقة.
ولا ننسى الموقع الإستراتيجي للشرق الأوسط، الجغرافيا السياسية جعلته على مفترق الطرق بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، يوفر أهمية جيوسياسية هائلة. وهذا سبب اهتمام الغرب منذ قرون في الهيمنة على المنطقة، فموقعها يوفر فرصًا للتجارة والسيطرة على الطرق البحرية والبرية الحيوية، مما يجعلها مركزًا حيويًا للتجارة الدولية والعمليات العسكرية. (بعد احتلال الهند، بريطانيا عبثت بالمنطقة لحماية ممرات التجارة)!
ثم هناك حاجة القوى العظمى للاستقرار الإقليمي. مع الأسف ظلت الرغبة بهذا الاستقرار مرهونة بمدى تحقيقه للمصالح الغربية. ورأينا كيف تتعامل الدول الكبرى مع الصراعات والخصومات والتحديات الأمنية، مثل الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني، والنفوذ الإيراني، وصعود الجماعات المتطرفة. غالبًا القوى العظمى تسعى للاستقرار والحفاظ على السلام في المنطقة لحماية مصالحها، ويهمها عدم تأثير صراعات المنطقة على الأمن العالمي، لا تهمها شعوب المنطقة!
ويبقى السؤال المباشر الذي يهمنا: هل بلادنا قادرة على لعب دور مهم في المنطقة؟ في تصوري الخاص هناك أسباب عدة تجعل لبلادنا الحضور الإيجابي على الأمن والسلام والتنمية في المنطقة:
أولاً، لدينا القدرة على التأثير الاقتصادي، فبلادنا هي أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، ونحمد الله الذي أوجد لنا الاحتياطيات النفطية الهائلة، وهيأ القيادة التي أحسنت استثمارها فأوجدت لنا القوة الاقتصادية، ومنحتنا القدرة على الاستثمار في الداخل والخارج، ومكنتنا من تقديم المساعدات المالية، والمساهمة في التنمية الإقليمية، وهذا عزز نفوذنا الإيجابي في التنمية والإعمار. الحمد لله لم نبذر أموالنا لتغذية الحروب والصراعات السياسية والاقتصادية.
أيضاً بلادنا لديها إمكانات القيادة الإقليمية، وهذا يعود إلى وقوفها في الوسط دون انحيازات غير مبررة، وآخر هذه المواقف رأيناه من دعوة الانضمام إلى مجموعة بريكس، فقد رأت التريث وعدم التسرع في الموافقة. كذلك نفوذها تستمده من اعتبارها راعية الحرمين الشريفين، ومن خدمتها للإسلام والمسلمين في العالم الإسلامي.
ولا ننسى أن الثقل الإقليمي لبلادنا تستمده من عامل مهم وهو: الأمن والاستقرار. كسعوديين نعتز دومًا أن بلادنا يتم تقديمها في المجتمع الدولي على أنها لاعب أساسي في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة. بلادنا قادت جهود مكافحة الإرهاب، ودعمت الأصدقاء والأشقاء وجميع الحلفاء خلال أوقات الصراع. شاركنا المجتمع الدولي في استعادة الشرعية في اليمن. نضع أروح أبنائنا وقدراتنا العسكرية وشراكاتنا الإستراتيجية لأجل الغايات الإنسانية، وهذه تجعل بلادنا لاعباً مؤثراً في ضرورات الأمن الإقليمي.
كذلك بلادنا لا تتأخر أو تتردد في المشاركة الدبلوماسية النشطة على المستويين الإقليمي والدولي، سواء عبر مبادرات جامعة الدول العربية أو المنظمات الدولية لتشكيل السياسات الإقليمية الداعمة للأمن القومي العربي، ولا تتأخر في التوسط في النزاعات كما يجري في السودان وأوكرانيا، ولا تشارك فقط لخدمة مصالحها الإقليمية.
هذا الواجب السياسي تباشره بلادنا بحكمة وحذر، فالظروف معقدة داخل الشرق الأوسط، بحكم صراعات القوى الدولية وبسبب المنافسات التاريخية والانقسامات السياسية ووجهات النظر الإقليمية المختلفة. هذه العوامل والتحديات لن تجعل بلادنا تستمتع وتتوسع للقيام بدور مهم كبير في المنطقة. الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كان لديه القدرة والرغبة للتوسع في مشروع التوحيد للجزيرة العربية، ولكن حكمته السياسية وسعة أفقه جعلاه يعرف جيدًا أين تتكوّن الخطوط في الرمال. قادتنا تعلموا عبر رحلة الحكم الطويلة والصعبة والمنهكة أن لكل دولة الخيارات الخارجية والداخلية التي تراها بناءً على مصالحها وأهدافها الذاتية، كما يقرره مبدأ السيادة والمساواة بين الدول.
وصعوبة المهمة النبيلة لقيادة المنطقة إلى مشاريع البناء والأمن والسلام يعززها استمرار الأهمية التاريخية للشرق الأوسط. القوى العظمى مستمرة على النفوذ والتطلع إلى تشكيل العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة. والكل يسعى لتأمين التحالفات، وإظهار القوة إقليمياً وعالمياً. ولكن من حقنا السعي والتطلع إلى تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
ولي العهد -حفظه الله- في الحوار عبَّر عن هذا الحلم، وهذا دور القادة التطلع إلى المستقبل بكل تفاؤل وثقة.