سام الغُباري
إهداء إلى «الحفيد» الأمير: محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أشد الناس شبهًا بصاحب هذه السيرة
أتقدم إليكم بهذه الفصول الثلاثة من رواية اعتزم إصدارها عمّا قريب -بإذن الله- بعنوان: أخو نورة، وهي رواية تحكي تفاصيل سيرة الملك المؤسس -طيب الله ثراه.
(1)
1892م
لأنه لا يملك سوى ثلاث غرف، اضطُر الإمام في الكويت: عبدالرحمن بن فيصل تأجيل عُرس ابنه: عبدالعزيز، انتظروا ستة أشهر حتى عودة يوسف آل براهيم من هنديان، ليدفع تكاليف العُرس.
عُرس في الصحراء!
قاوم عبدالعزيز الحزن بإخفائه، اتكأ والده على حلق الباب الخشبي، ونهض، امتشق سيفه اللامع وسط جموع متفرقة، سرعان ما انتبهت له، بدأ يراقصُ نفسه «العرضة»، يتمايل يمينًا وشمالًا، والسيف يؤوب معه مثل جبل داوود، ردد المحتفلون أهازيجَ شعبية مع تطاير صوت الدف، والإمام يعلو في رقصته منفردًا، عيناه تتطلعان نحو السماء، وعنقه مرتفعة إلى الأعلى، غاب صوته على وقع حماسة الأداء، كان يُنشد متهدجًا كلماته المهداة إلى أنجب أبنائه: عبدالعزيز، العريس الذي يحتفل في المنفى بزواجه الأول، وقد بدا الأمر واضحًا - بالنسبة له على الأقل - أنه آخر أئمة آل سعود.
عند باب الدار الصغيرة التي أسكنهم فيها حاكمُ الكويت مبارك الصباح، وقفت الأم بردائها البدوي الأنيق، تضحك وتبكي..! تراقبُه يحمحم مثل حصانٍ جريح، وعلى مصطبة مرتفعة ومزركشة جلس عبدالعزيز، يحاول الابتسام، يهز رأسه لنظرات المهنئين، ويصافح المقبلين إليه بود وحرارة.
أحسَّ طعم المرارة في فمه!
طعم الدمع الذي لمحه يفر من عيني والده الإمام، وقد جاهد إخفاء تسلل الحزن نحو قلبه وعروقه.
أراد الأب أن يفرح، فاليوم عُرس الفتى الأكثر محبة إلى قلبه..
عُرس عبدالعزيز.
وكما هزمه آلُ رشيد في معركة الصّريف، هزمه الحُزن، وثقل السيف بين يديه، بصعوبة بالغة رفع ذراعيه في وجوه الضيوف، معلنًا نهاية فقرته الراقصة، مغالبًا الابتسامة على التعب.
* * *
1902م
الشمسُ شرسة وملتهبة..
كأنها أقسمت على ابتلاع صحراء نجد بكثبانه ورماله الذهبية الشاسعة. لم يكن سوى الريح، وذرات رمل تتقلب على هجير اللهب، وستون مغامرًا مُلثمين على صهواتِ جيادهم، يركضون بعزم من يعرفون وجهتهم وهدفهم. من يطلع عليهم لا يخطئ في وصفهم: فتية تتطاير من ورائهم أغشية سوداء رقيقة، كان خفقانها يتصاعد مُدويًا أكثر، كما لو أنها أجنحة طائر أسطوري مهيب.
كانوا معًا قد أقسموا على الإخلاص لقائدهم، والتضحية بدمائهم في سبيل الوصول إلى الرياض، وإجلاء عجلان بن محمد عن إمارتها. هناك على جذع نخلةٍ وارفة، أعاد عبدالعزيز آل سعود تذكير المغامرين بأسباب الفشل في المحاولة السابقة، كانوا عشرة أشخاص، كل من بقي معه لتأييد رغبته الناضجة في استعادة حكم آبائه.
في أوان العصر، أقسم عبدالعزيز على نفسه أن يخاطب والده بطلب فرسانٍ جُدد من حاكم الكويت، كان عبدالرحمن الفيصل رجلاً سبعينيًا، يقضي سنيّ اغترابه القسري في مدينة السليمانية التي جاءها مضطراً مع عائلته وأتباعه، وعياله الأربعة والعشرين إلى الكويت.
عبدالعزيز الرابع بين إخوته الذكور، حين ناداه لم يجبه. كرر النداء، وتجاهله الأب. كان يعلم رغبة ابنه في انتزاع عرش آبائه المفقود. يدرك روحه المتأججة، وصدره المحتقن بالضرورة، ولم يكن عبدالرحمن الفيصل مستعدًا لفقدان أنجب أبنائه وأشدهم ذكاءً وريادة ومعرفة. في المرة الثالثة صاح عبدالعزيز على أبيه باسمه مجردًا من صفة الأب، وكانت تلك طريقة إلزام الآخر بالحجة..
أناخ عبدالرحمن ناقته، وفي فمه ألفُ حوقلةٍ يرددها باتساع قلبه الوجل من نبأ يُراد له أن يسمعه رغمًا عنه، وعلى أطرافِ كثيبٍ رمليٍّ افترش الأبُ سجادةً حمراء حين أقبل عليه ابنُه بعزم، يناشده: يا والدي.. أنت بين خيارين؛ إما أن تأمرَ أحد جنودك يفصل رأسي عن جسدي وأرتاح من هذا الهم، أو تسمح لي وأقاتل في بطن نجد، وأسترد حكم أجدادي.
- سمّ الله يا ولدي!
أثار عبدالعزيز موجة غبارٍ في وثبته المفاجئة نحو حصانه الأسود الذي جفل لإعصار صاحبه، ما جعل ثغر أبيه يفتر بابتسامة قلقة، صائحًا: عُد إلى هنا.
أخرج عبدالعزيز بندقيته اللامعة من جراب جلدي معلقٍ أسفل مؤخرة الحصان، رفع البندقية إلى أعلى، معاهدًا نفسه المضي على سيرة أسلافه الذين أسّسوا مملكة مترامية الأطراف، وقد بدا الرجاء يرفُّ على قسماتِ وجهه، وعلى رفيف رمشيه حزنٌ كثيف وجلد داكن، اكتسب سمرة واضحة خلاف طبيعته المائلة إلى اللون الأقحواني الرائق..
كانت تدريبات الفروسية والقتال التي جلد الشاب ذو القامة الفارعة نفسه على خوضها وتعلمها في مختلف الظروف المناخية، قد صاغت منه قائدًا فذًّا.
في تلك الأيام كان الأب عبدالرحمن يدعو ابنته الكبرى نورة إلى تهدئة أخيها الطامح لاستعادة العرش المسلوب، إلا أنها دأبت على تقوية عزائمه..!
يومئذ عاد منكسرًا مثل غصن بيلسان حائرٍ عقب محاولةٍ فاشلةٍ لاقتحام قصر المصمك قبل ستة أشهر، أخذته بين ذراعيها، داعبت خصلات شعره المكسوة بالغبار، قالت: الفشل أول طريق النجاح. كانت حكمة امرأة عاصرت تشرد أسرتها وسط محيط صحراوي ملتهب، ظنت للتو أن الربع الخالي سيلتهم أملهم الأخير في العودة إلى وطنهم المسلوب، يومها كان عبدالعزيز ذلك الفتى المرهق من هزيمة والده الإمام، وفقدان أصدقائه، ومحيطه الذي أحبه، وعشقه.
قالت: أتذكر قبل عشر سنين، كُنا بلا قائد، وقد أحاطنا اليأس، وتداعت أركان العزيمة بين الأسرة، وجئت أنت يا عبدالعزيز لتحيي فينا كل هذا الأمل، وتمنح القبائل الأخرى فرصة لاستعادة أمنهم الذي فقدوه بانهيار الدولة السعودية الثانية.
بعينين أضناهما التعب، أدار عبدالعزيز رأسه إلى وجه أخته قائلًا: لكني لم أنجح!
شعر بذراعين قويتين تهزان بدنه، وقد تغضّن وجه نورة، وبدت عليها مسحة غضب، محذرة بقولها: لا تحدث نفسك بهذا القول مرة أخرى، وكما قلت لك: سترى في القريب نجاحًا أكبر، فاحرص على تلافي ما أخطأتَ فيه هذه المرة. هزّ رأسه، فاحتوته بكفيها وطلبت منه أن يعدها، فوعدها، ونهض يجرُّ قامته المتعبة إلى الفراش.
في تلك الليلة، رأى عبدالعزيز في منامه ابنَ رشيد يجول في الرياض وبيده فانوسٌ مشتعل، وقد عزم على ملاحقته فقبض عليه، ثم أطفأ الفانوس..!
قبل صقاع الديك، نهض الشاب العشريني إلى صلاته، أطال السجود، وزفرات صدره تتوالى حارة، كأنها نفثُ صاروخٍ يزمجرُ في لجة الكون حتى سكن. لاحَ الشفقُ من آخر الصّحراء المترامية بوهجه الذهبي على المكان، وعبدالعزيز غارق في سجوده، دعا ربه كلَّ شيء، وبث إليه - سبحانه وتعالى - لواعج شوقه إلى بلدةٍ آمنةٍ، ترخي سدولها على الجزيرة العربية، فترفع شأن أهلها، وتعيد إليهم سيرتهم العظيمة الأولى.
حطّ على شُرفة المصلى الطيني الصغير طائرٌ غريب، له ريش طاووس، ومنقار صقر، وعنق نسر، وجناحا هدهد، وثب الطائرُ فوق ظهر عبدالعزيز المنحني في خشوع، لم يحرك الرجل ساكنًا، خطا الطائر برقة نحو كتفه، وبقي هُنيهة يرقب المكان ويدور برأسه الملون. اقترب الطائر أكثر من أذنه، توقف قليلًا، ثم حلق بعيدًا. لحظتها، كانت شمسُ ذلك الصباح قد بدت هي الأخرى غريبة ورائقة، باردة مثل قطعة ثلج، ودافئة كروح ندية.
ارتفع رأسُ عبدالعزيز من سجوده الطويل، وابتسامة تملأ وجهه، كأن حياة جديدة دبت فيه، ورفعته إلى الأعلى حتى يخيل للرائي أنه صار أطولَ قامة من ذي قبل. حينها امتطى جواده الأسود ومضى مثل رمح نحو الأفق.
أشار عبدالرحمن بن فيصل إلى ابنه بالقعود قبالته.. سأله بلطف عن حاجته، قال عبدالعزيز: أنت تعرف يا أبي..!
هزّ الأبُ رأسَه وصمت، انشغل بنكث حبات الرمل بعود يابس. انتظر الشاب الذي يفور مثل تنور قبالته نهاية الصمت، كانت الجِمال القريبة من مطرح الرجُلين تحنُّ بصوت مرتفع، مثل ناي حزين تردد صداه في الكثبان البعيدة، أشار إليها عبدالعزيز بعصاه، فتوقف صوتُها، وجاء صوتُ الأب متهدجًا: ليس لي قصد في أن أقفَ في سبيلِ إقدامك، ولكن كما ترى، موقفنا وحالنا يقضيان باستعمال الحكمة في إدارة أمرنا.. أما وقد عزمت، فأسالُ الله لك العون والظفر.
- بشرك الله يا أبتي. قالها عبدالعزيز، ونهض من فوره، مُقّبلًا رأسَ أبيه الذي حاول إخفاءَ دموعه وقد تزاحمت في مآقيها، وعيناه ترقبان ابنه ذا السادسة والعشرين ربيعًا يهرولُ نحو حصانه الذي رفع قامتيه الأماميتين إلى أعلى، ونفض غرته في الهواء فرحًا بصاحبه، حمحم الحصانُ بصوت يشبه الصهيل، كان شعورُه هو الآخر دافقًا بأنه يوشك أن يعبرَ مع فارسه إلى المجد.
في ديوانيّة حاكم الكويت بدا عبدالعزيز أكثر حضورًا، مثل فنار مشع، شديد الشبه بأبيه، له تلك العينان المعسوجتان من الأطراف، وشاربٌ منمّق، أنفٌ حاد مثل سيف نحاسي، منتصبٌ حتى في قعوده، وعلى رأسه شماغ العرب، وعِقال أهل الصحراء.
بادره الحاكم السّبعيني بالترحيب، وسأله: ألم تكتفِ يا ولدي من الطموح الذي نخشى أن يقتلك؟!
جفل عبدالعزيز لبرهة، خالجه قلقٌ بارد من سؤال حاكم الكويت، وأدرك أن هذه لحظة الحقيقة، ورغم كل المشاعر المتأججة في صدره، إلا أنه ظهر باسمًا وجامدًا مثل تمثال إغريقي.
قال: النصرُ بعون الله حليفنا، وراية التوحيد لا بدّ أن تعودَ إلى أرضنا، والرياض والجزيرة العربية بأسرها ترجو عودة أسرة آل سعود، لإنهاء الخراب والفساد الذي عمّ فيها، فأهلك الحرث والنسل.
كان أمير الكويت يُدرك أن ستين رجلًا لن يحققوا تلك السعة الجغرافية، ولا الأمن الذي يتحدثُ عنه الشاب الجالس إلى يمينه، فقبائل الجزيرة العربية متفرقة، وكل قبيلةٍ تبحر في اتجاهٍ مضادٍ للأخرى، والتدخلات العثمانية والبريطانية تنفر الجميع عن جمعهم، كانت مهمة مستحيلة، أو هكذا تبدو..
أطرق عبدالعزيز، منتظرًا جواب الأمير، بينما توقف والده عن إضافة أي تعليق. ساد صمتٌ طويلٌ تخلله همسٌ رفيع يتسللُ بين أكتاف الرجال، وصوت حسيس الحطب المحترق يشي بردًا غير متوقع، ولمعة النار المتراقصة تغدو وتجيءُ على الوجوه المتصلبة من الترقب.
وحده عبدالعزيز واثقٌ من المدد والعدد، كانت رؤياه بإطفاء فانوس ابن رشيد تتكررُ أمام ناظريه كلما تأزم أمرٌ وصعبت مهمة. أطلت الرؤيا تمنحه صبرًا وأملًا، لحظتذاك نادى مبارك الصباح أحدَ حرسه، وأدار وجهه نحو عبدالعزيز، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة ثقة. قال له: أمض يا بني، فأنت لها، وربنا يسدد رميكم.
عبرت نسمة واسعة الطيف إلى المكان، مرت على الوجوه مداعبة ومتلطفة، مثل روح قُدس ملأت الصدور المنقبضة بِعلِيلِها، وأراحت الأجساد المتوترة من انقباضتها، وقد علت تنهيدةٌ مضطربة من عبدالرحمن الفيصل، شعر عبدالعزيز بقلق أبيه، ونهض إليه يُقبّل رأسه ويتوسله الدعاء.
تحدرت دمعة سريعة من عين أبيه، أدار رأسه باتجاهٍ آخر، فضحك عبدالعزيز وربتَ على كتفه، ومضى نحو الحاكم، صافحه بقوة. هذه طريقتُه في التعبير عن امتنانه. شاب جسور مثله، يحمل همّ أمته، ورخاء شعبه، وقبل كل ذلك، عودة عرش آبائه، لم يكن يحتفلُ بالعبارات أكثر من الأفعال. يعي أنّ لغته الحقة تكمن في أعماله، وأنّ صلاحه الحقيقي تترجمه المآثرُ الطيبة التي يطبعها على قلوبِ الناس وعقولهم، يسلب تأييدهم بشجاعته، ويحتوي سوادهم بشموخ قيادته وعفوه وصبره وإحسانه.
في تلك الليلة لم ينم عبدالعزيز، ولا الستون فارسًا..!
كانوا قد سَروا بقطع من الليل من حدود الكويت إلى صحراء الربع الخالي، منتظرين طلوع الفجر، وأي فجر هو ذاك؟!
بدا المشهدُ سرياليًا، والرؤيا تقترب، وفانوس ابن رشيد يهتز مع كل هبةٍ يخطوها الفرسان إليه، يتوارى ضوؤه شيئًا فشيئًا مع كلّ ضربةِ حافرٍ من حوافرِ الخيل المقبلة إليه.
ومن بعيد لاح قصر المصمك..
فهناك كانت البداية..!
(2)
1893م
ناولت نورة إناء الحليب من ضرع الناقة إلى أخيها عبدالعزيز، بدا الإناءُ في ذلك المساءِ الأسود مثل بدر مكتمل، ارتشف أخوها القليل، وأدار الإناء إلى شقيقه محمد، ومنه تناولت أيدي أبناء الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود الحليب بشفاههم المتعبة من رحلة الاغتراب القسري إلى الكويت.
على مصطبةٍ خشنةٍ، أراح الإمامُ المحزونُ جسدَه المنهك، واجمًا كان، ينقّلُ عينيه بين النجوم وأولاده؛ كوكبة من الفتية والفتيات، أمراء، انتزع ابنُ رشيد حقهم الشّرعي في حكم وطنهم.
تلألأت السماءُ بأربعةٍ وعشرين نجمًا..
عدّهم.. فرك عينيه، ثم أعاد العدّ، لم يأفل منهن نجم، من اليسار إلى اليمين أشرق النجم الرابع، مثل قمر صغير، انشغل عبدالرحمن بن فيصل بإطلاق أسماء أولاده على النجوم، هذا فيصل، وذاك فهد، وهذا خالد، والرابع عبدالعزيز. توقف لبرهة، كان النجم يتألق ببهاء وضوء لافتين، التفت الرجلُ إلى ابنه عبدالعزيز، رآه في منتصف المكان، وحوله تحلق إخوته ذكورًا وإناثًا، مشرقًا وباسمًا، يتبدل وجهه بين الحزم واللين، يحدثهم، رغم شقاء المسير واضطراب الأحوال وتغير المقام من قطر إلى البحرين، وأخيرًا الكويت، سنة عجفاء، قد تتلوها سنين أكثر سوداوية وأشد بأسًا.
ماذا تفعل يا عبدالرحمن؟ سأل الأب نفسه همسًا، أعاد وضع وسادة رأسه، مُصدرًا أنّة خافتة، يتقلبُ على هجير الاغتراب، كمن يشوي روحه في آخر مطافِ الحياة التي تقترب من نهايتها دونَ قرارٍ ولا وطن.
طال جلوسُ الأبناء حتى غمرهم أذانُ الفجر، اصطفوا على سجادةٍ عريضةٍ للصّلاة، ينتظرون أباهم؛ لكنه لم يأت، اختطفه مرضٌ مفاجئ، ارتعشت له أنحاء جسده بالحمى والعرق، وسط إغماءةٍ وإفاقه. همس عبدالرحمن لزوجه باسم عبدالعزيز، قالت: ما به؟ ومن بين شفاه جافة تمسحها الزوجة بقطع قماش مغمور بماء نظيف، جاء صوته واهنًا: يُصلي بهم.
وأضاف: عبدالعزيز يصلي بالعيال الفجر.
عندما بلغهم أمرُ أبيهم، تلفتوا بينهم، وتقدمهم عبدالعزيز بخشوع، تلا سورة البقرة. اختار منها الآيات: 249 إلى 255، بلغ صوتُ تلاوته مسامع أبيه في الحجرة المجاورة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
حين حلّ الشروقُ، وأظهرت الشمسُ لوعتها الباردة، كان عبدالرحمن بن فيصل، أسكنَ من ذي قبل، وبهدوء انسحب أولاده إلى البرية. عبدالعزيز ظلّ جالسًا بقربه يداويه، يجفف عرقًا كثيفًا يتفصّد من جبينه، ويعتصر الكمادة فينتز منها العرق إلى صحن فخاري، ثم يرفع رأس أبيه على حِجره، ويسقيه دواءه المصنوع منزليًا، ولما أرخى الليل سُدوله، وتوارت الشمسُ وراءَ كثيبٍ صحراوي مرتفع، تراقصت ذراتُ رماله بلونٍ نحاسي، تنفثها نسائمُ الرياح الباردة، كان عبدالرحمن يفتح عينيه على وجه ابنه عبدالعزيز، ولما رآه مبتسمًا دعا له، وبيدٍ متيبسةٍ مسّد الأبُ بكفه وجه الفتى البشوش، ساعده عبدالعزيز على الجلوس مُستندًا إلى الحائط الطيني، قال الإمام عبدالرحمن ضاحكًا: أشعر بجوعٍ شديد. جاء صوت زوجته من الداخل بالتلبية، ومن بعيد سُمعت أصواتُ أولاده تصبو إلى دارهم المؤقت، وسرعان ما كانوا بين يديه فرحين بشفائه، وعلى ضوء ثلاثةِ مشاعلَ تمايلت نارُها مثل راقصة شرقية، تحلقت العائلةُ على صحنٍ كبيرٍ من لحم الضأن والجريش والخبز.
أكلوا حتى شبعوا، واغتسلوا تباعًا من دلاء البئر، كان عبدالعزيز يحمل الدلو لهم، يفيضُ بمائه على أياديهم، مرة تلو أخرى، يبتسم، ويُداعب إخوانه بلطف.
منذ زمن، راقب عبدالرحمن بن فيصل، بصمتٍ وإعجابٍ تصرفات ابنه التلقائية، أدهشته تلك الروح الغامرة بالحب، شديدة التعلق بالمساعدة، غير مرةٍ كان الأبُ يرفع حاجبيه انبهارًا لسداد رأي عبدالعزيز في أكثر من موضع وموقف. التفت إلى زوجته قائلًا: عبدالعزيز قائدٌ بالفطرة. أيّدته الأم بابتسامة امتنان واسعة، تمتمت بالدعاء والرضا عن ولدها الذي لا يترك أمرًا دون العناية به، يشفق بإخوته، بجنود والده، بأمر القبيلة، بشؤون الضّيف، وبصحة الجميع، لطيفًا كان، وحازمًا.
بعد أعوام..
صارت الكويت تعرف عبدالعزيز، أمهرَ الشباب فروسية، وأحنكهم تصويبًا بالبندقية، وأجسرهم نزالاً بالسيف. المساجد أيضًا، كان فيها أحفظ الفتية لكتاب الله وسنة نبيه، وأوعاهم في الفهم والاستدلال، ومن اللغة العربية، شق عبدالعزيز مهارة تعلم أبجدياتِ السياسةِ العربية والدولية، وعلوم الرجال، وطبائع القبائل.
* * *
على رأس كثيبٍ رملي منحدر، تحدى عبدالعزيز نفسه، كان المساءُ دامسَ الظلمة، لا يرى المرءُ راحة كفه إذا رفعها أمام عينيه. هناك - وطوال أعوام - كانت خلوته، يتأمل المساءاتِ الطويلة، يفترشُ الرمل مُصلى، يخلو إلى بارئه، وعلى مقربة منه آنية القهوة، كلما مدّ يده إلى فنجانه، اقترب حصانه إليه، فيبتسم عبدالعزيز، يمسّد عنقه، ويطعمُه بضعَ تمرات. ذات مساء أدركه ابن جلوي، جلس جواره، عقد رجليه إلى باطن صدره، ابتسم معلقًا: ماذا ترى في هذه الظلمة المخيفة؟
فارق الصمت الطويل عبدالعزيز، أعاد سؤالًا آخر لرفيقه: هل ترى ابتسامتي؟ هزّ ابن جلوي كتفيه عابثًا: بالطبع لا.
- وهذا ما أقصده، أنت هنا لا ترى بعينيك؛ إنما تتأملُ ببصيرتك، تشعرُ بكل شيء حولك، تتعلمُ الإحساس بالموجودات دون أن تراها، تغوصُ في أعماقك وتوقظُ حواسك المُعطّلة للتفاعل مع سكناتِ الصحراء ووحوشها وكائناتها، تسمع صوت حيوان يغطغط بعيدًا، فتميز صوته، أكان نمرًا أو ضبعًا أو ذئبًا، تشحذ سمعك، أين هو؟ في اليمين أم اليسار؟ خلفك أم أمامك، وكيف تواجهه؟ فلكل حيوان شيءٌ يخيفه ويبعده، وأما لو كان عقربًا أو ثعبانًا يسعى بفحيح يقشعر له بدنك، فأين مقبض نهايته؟
رد رفيقه مداعبًا: أهرب وكفى..!
جاءه صوتُ عبدالعزيز مثل صدى بعيد، يدوي في أذنه الوسطى، مثل قرع طبول منهمر، قائلًا: عبدالعزيز بن عبدالرحمن لا يهرب!
- تريد أن تصبح ملك الصحراء إذن؟ علّق رفيقه..!
قبض عبدالعزيز كلتا يديه، رفعهما إلى أعلى، نحو القمر وكان هلالًا: ملك الناس الذين يريدون صلاحًا للأرض وعمارتها، ملك يشعر بالفقراء فيداوي فقرهم، وبالمستضعفين فيقوي ضعفهم، وبالخائفين فيؤمن روعهم، ملك لا تنهب الأوبئة شعبه، ولا ينخر الفساد وقطاع الطرق أراضيه، ملك يحتوي الشعب كأنهم أبناؤه، ويشد عزيمتهم حتى يعودَ إلى وطنهم عزته ومكانته بين الأمم.
حين نهض الاثنان، كانت الرياحُ تصفر بنغمٍ موسيقي، تأتي من الشّرقِ بصوت حفيف، تهبط مع الرمال، فيصبح حنينًا، وتعلو نحو الفراغ الغربي، ليبدو الصوت نفيحًا، ويستحيل أزيزًا. قال ابن جلوي لعبدالعزيز: هل تسمع هذا؟ ثمة من يعزف..!
قال عبدالعزيز ممازحًا: اسمعُه أغلبَ أيامي، إنهم الجن يريدون التعرف إليك..!!
وثب ابنُ جلوي على حصانه فزعًا: أعوذ بالله، ولكزَ الحصانَ بقدميه، فانطلق كالسّهم نحو البلدة النائمة، وعبدالعزيز يلاحقه على ظهر حصانه ضاحكًا، يكاد يناديه وتتضاحك الكلمات، يلوح له بذراعه، وضربات حوافر الحصانين كأنها قهقهاتُ جنٍّ ساخرين..!
(3)
لم يكن عبدالعزيز آل سعود بحاجةٍ إلى أكثر من ستين رجلًا. الآلافُ الذين انسلوا من جيشه السائر بهمة نحو الرياض عقب رضوخ مشايخهم للتهديد العثماني لن يجعلوا انتصاره القادم مذهلًا، بقي المخلصون الذين كتبهم التاريخ بمجد. أولئك العائدون من رحم جيشه فاتَهم الفخر، ولم يفت في عضد الباقين تراخي الكثرة.
حين وصل رسولُ أبيه حاملًا خطابًا يستحثه العودة إلى الكويت، جمع عبدالعزيز رجاله، كانوا ستين رجلًا، وكان أمهرهم وأشجعهم، حين رأى فتورًا يهم بالقضاء عليهم وقف مثل تمثال نحتته الرمال، شعر بصوته يهوي إلى أعماقه، صاح فيهم من الأعماق إلى أفئدتهم، ونادى بالمجد والنصر، والمستقبل. ألهب حماسَهم حين قال: لا أزيدكم علماً بما نحن فيه، وهذا كتابُ والدي يدعوننا للعودة إلى الكويت، قرأته عليكم، ومبارك ينصحنا بالعودة.. أنتم أحرار فيما تختارونه لأنفسكم؛ أمّا أنا فلن أُعرّض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقة الكويت، ومن أراد الراحة ولقاء أهله والنوم والشبع فإلى يساري.. إلى يساري..
هرعوا إلى يمينه..
تحلقوا مرة أخرى يبايعونه على الطاعة في المكره والمنشط.
التفت عبدالعزيز إلى رسولِ أبيه، تنحنح الرجلُ وغمغم، وقد بدا أنه يحاول الحديث، قاطعه عبدالعزيز بابتسامةِ ثقة، قائلًا: «سلّم على الإمام واخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا، وقل له: موعدنا - إن شاء الله - في الرياض».
لم يكن الملك غير المتوج، بعيدًا عن تاجه المختطف، مقتربًا نحو مسؤوليته وواجبه، كانت الشمسُ أكثرَ دفئًا في واحة يبرين. استلقى الرجال على العشب. بضعة منهم قصدوا بئر الواحة، أرسلوا الدلو إلى أسفل، سمعوا صوت ارتطامه بالماء، سرت بينهم ابتسامة رضا من وجه إلى آخر، حتى بلغت الستين في غمضة عين، كان آخرهم عبدالعزيز منتظرًا دوره، حلفوا أن يرتوي قبلهم، رفض، ساعدهم على الغُسل، يمسح وجه عبدالله بن خنيزان، ينفض رأس ناصر بن سعود، ويشير إلى حزام الدوسري بالاقتراب، فيقبل بعنفوان مارد يثير العجب.
توضّأ عبدالعزيز، أشار إلى سهلٍ منبسطٍ لصلاة الظهر. حين فرغ من الصّلاة استدار إلى رجاله، رسم على صفحة الرمل خطة المعركة. قال: سنقتسمُ إلى ثلاثِ مجموعات: الأولى ستبقى عند جبل «أبو غارب»، ليكونوا رافدًا عند الحاجة، وبحماية الطريق المؤدي إلى الرياض، وأشار إلى أخيه سعود، مضيفًا: بقيادتك. والثانية: عددها ثلاثة وثلاثون رجلًا، بقيادة أخي محمد، وتكمنُ في المزارع القريبة من الدرعية، لتأمين الاتصال.
تبادل الشقيقان نظراتٍ ذات معنى. عرف عبدالعزيز توقَ أخيه إلى البقاء معه في مجموعةٍ واحدة، هز رأسه متفهمًا، وأعاد بإصبعه رسم دوائرَ صغيرةٍ على صفحةِ الرمل. أردف بحسم: والثالثة: تكون بقيادتي، وهي المجموعة الفدائية التي ستحرر الوطن.
رانَ صمتٌ ثقيلٌ على المقاتلين، كانوا يعرفون أنّ من بقوا مع قائدهم أقلّ من المهمّة الجسيمة، بضعة أفراد.. ستة فقط، على عاتقهم تحرير وطن بأكمله، واستعادة مركز الدولة السعودية الأولى والثانية..! لكنهم لم يُبدوا امتعاضَهم.
ثقتهم بعبدالعزيز، رؤية تلك الثقة في عينيه، منحتهم قدرًا هائلًا من الاطمئنان أن ثمة نصرًا كبير يخبئُه الله لهم.
في أوان العشاء، اضطجع الفرسانُ متفرقين، ذهبوا إلى النوم وفي روح كل فارسٍ تشاركوا حلمًا واحدًا، رؤوا مؤذنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلالَ بن رباح يرفع أذان الفجر بصوته الندي، كانت قامتُه السوداء مشعة في ذلك السَّحَرِ المهيب، يلوح لهم بيده اليمنى ليدخلوا المسجدَ، يده بيضاء كبياض أسنانه المضاءة في ظلمة ليل كالح، وقد بدوا مندهشين، تلفتوا فيما بينهم وعلى وجوههم البشرى، انطلقوا سراعًا إلى ساحةِ المسجد، ألْفوا النبيَّ مضيئًا مثل مشكاة، جلسوا بين يديه الشريفتين، وقد غمرتهم كفه الطاهرة بالربت على كتفِ كلّ واحدٍ منهم.
منتصف تلك الليلة، استيقظوا معًا، تحدثوا عن الحُلم. قال عبدالعزيز: إنها البشرى أيها الفرسان، نظروا إلى بعض، ومضوا نحو حلمهم.
الريح باردة، وهلال السماء وراءهم، يمضي خلفهم مثل كفّين تحميان ظهورهم، تقتفيان أثرَ المجد الذي يكاد يتفتقُ عن رجالٍ عظام، وسيرةٍ لن ينساها التاريخ.
* * *
في تلك الليلة، وعلى بُعد بضعةِ كيلومترات، ارتعد عجلان بن محمد فوق سريره الخشبي. كان قصر المصمك حصنه المنيع من الكمائن، لا يهنأ له نوم في سواه، ولا يشعر بالراحة دونه. طوال ستة أشهر من آخر حصار ضربه عليه ابن سعود كان عجلان بن محمد يفكر في تحصين القصر بالمزيد من الرجال.
تلك الليلة، دهمه عَرَقٌ مفاجئ، حين جافاه النوم، وسهّد الأرق عينيه، نهضَ قلقًا يتفحصُ حراسته، أخذ دشداشته، وارتدى لباسه، ومضى يزورُ ثكناتِ الحراسة، ثكنة ثكنة، يسألهم: هل رأيتم شيئًا مُريبًا؟ وكانت إجابتهم واحدة: لا شيء.
نفض عجلان غبار ردائه، مُصدرًا تنهيدة طويلة، سأل نفسه: لم هذا القلق؟!
ومن جديد عاد ليطمئن على الثكنات، من سُلّمٍ إلى آخر، يصعد ويهبط، يراقب من كوة القصر ما حوله من أحراش، وصحراء ممتدةٍ لا صوت لها.
* * *
اليوم، رابع أيام عيد الفطر 1319هـ
على مشارفِ الرياض، توزع الرجالُ حسب الخطة، في منطقة «ضلع الشقيب» حط عبدالعزيز رحاله، موجهًا أتباعه بالبقاء. أخذ منهم أربعين فارسًا، منهم أخوه محمد، وابنا عمه: عبدالله وفهد بن جلوي بن تركي، خطا بهم سريعًا على الأقدام، انساحوا وسط غابةِ نخلٍ كثيف.
الغابة على ضفاف قصر المصمك، وأنفاس الرجال محتدمة ومتشابكة كالنخيل الذي يحفهم من كل جانب، عيونهم مثل سرب صقور جامح. حناجر الفرسان تتشقق عطشًا، هناك: أشار عبدالعزيز لأخيه محمد بالبقاء، غمغم محمد حنقًا، إلا أنّ نظرةً ثابتة من أخيه أوقفته، أطاح برأسه إلى الأرض وصوت زفراته تعلو. التقط عبدالعزيز بندقيته وقبل أن يهرع برفقة سبعةٍ آخرين إلى هدفه التفت نحو الفرسان، ومن بعيدٍ أدرك بعينيه أفقًا ذهبيًا يكاد يقهرُ ظلمة الليل الطويل. حين انتهوا من صلاة الوتر. قال عبدالعزيز بصوت قوي: لتبقوا هنا إلى يوم غد، فيما نحن السّبعة سنتقدم، فإذا لم يأتِ منا نبأ فاعلموا أنا قد قُتلنا، فانجوا بأنفسكم.
تعانقوا جميعًا، ومضى السّبعة، مثل سبع سنابل نحو المجد.
* * *
في الجانب الغربي لقصر المصمك، استقيظ «جويسر» على وقع ضرباتٍ خفيفة تقرع بابه الخشبي. منزله الطيني الذي استغرق في بنائه ثلاث سنواتٍ كاملة كان مُسقوفًا بالخشب والقش، وبداخل حظيرته المحاطة بالأسلاك والطين ثلاثُ بقراتٍ عجاف، لم يبع منهن غير واحدة.
في هذا العيد باع أربع عنزات فقط. كان أفقرَ أهل الرياض، حين يعايرونه لشدة عُسره، يشير إلى دار عجلان ساخرًا: ومن سيغتنى وهذا على الوجود؟!
اهتز جويسر لطروق زوار الفجر المفاجئين، أشار إلى زوجته التي بادلته القلق أن تبادر بالسؤال. قالت: من؟
أجاب عبدالعزيز: ابن مطرف!
تبادلت مع زوجها نظراتٍ أكثر قلقًا، وبإشارة أخرى من رأسه، تشجعت قائلة: وماذا تريد؟
أجاب عبدالعزيز بصوت هادئ: أرسلني الأمير عجلان، لأطلبَ من جويسر شراء بقرتين.
تهللت أساريرُ جويسر، فنهض نحو الباب وفتحه، وعلى الفور وضع عبدالعزيز رجله اليمنى على مدخل الباب، وأبقى الأخرى خارجه، وبصوت حازم قال آمرًا: اسكت ولا ترفع صوتك.
ابتلع جويسر لسانه، كانت عيناه وحدهما اللتان تنطقان وتسألان! أضاف عبدالعزيز وقد بدّل حزمه بابتسامة مطمئنة، قائلًا: نرجو أن تسمحَ لنا بالعبور من دارك إلى دارٍ أخرى، أذعن جويسر وذهب مع زوجه نحو ركن قصيّ، يراقبان ما يدور بلا أدنى فعل، رفع عبدالعزيز بندقيته، إشارة إلى رفاقه الذين أخذوا أماكنهم داخل الدار، فيما عقب أحدهم إلى الوراء، عائدًا نحو الفرسان الثلاثة والثلاثين ليجلبهم في التو.
من منزلِ جويسر الصغير، نَفَذَ عبدالعزيز ورجاله إلى درا عجلان الملاصقة لمنزله، تسوّروا الجدار، وعبروا بهدوء محكم نحو الداخل، ألفوا امرأتين على فراشٍ عريضٍ في زاويةِ الغرفة العلوية، لم يكن في الدار سواهن. سألهن عبدالعزيز عن تواجد عجلان، وبالكاد نطقت إحداهن، لكأنها رأت ماردًا. كان ضوء الشعلة الصغيرة في يد مرافقه يعكسُ جانبًا من وجه رجلٍ فارع القامة، ملقيًا بظلاله الشبحيّة الضخمة على المكان. قالت المرأة: إنه بقصر المصمك، وسيأتي إلى داره عقب صلاة الفجر.
- من أي جانب سيأتي؟ - سألها عبدالعزيز
- من الفناء الواسع الملاصق للقصر وداره. أجابت المرأة.
كان الفناء في العادة، يُستخدم مرابضَ للخيل، وفي الدار يتناول عجلان إفطاره، ويتهيأ للخروج الصباحي المتكرر إلى دار الإمارة.
لم تكن امرأةُ عجلان تعرف هذا القادم الثائر، رغم بأسه وحزمه ومنظره المهيب. لم يرفع عينيه في وجههن. حدثهن محدقًا أسفل قدميه. لم تسأله إحداهن: من أنت؟ كان استسلامًا واعيًا لقدرٍ مجيد يُراد أن يعبرَ بالمملكة إلى فضاءٍ من الرفاة والقوة.
لحظتذاك، بات الفرسان الثلاثة والثلاثون مجتمعين في عقر الدار، بانتظار صلاة الفجر، وحين بلغهم صوت المؤذن، تجهزوا للصلاة، ولما انتهوا انتشروا في أكثر الأماكن احتماءً ومنعة وأشدها ظلالًا، شدد عليهم عبدالعزيز التزامَ السكون حتى تأتي منه المبادرة.
توارى عبدالعزيز وراء عمود طيني بارز أسفل باحة الدار، مطمئنًا إلى جهوزية بندقيته، سمع صوتَ مزلاج البابِ الخشبي يُفتح، أصاخ السمع، تذكر خلوة الصّحراء، أغمض عينيه، مطمئنًا لحلمه، وتاريخه لكل لحظة أرادها في حياته باتت الآن أقرب من أي وقت مضى، تنبه إلى أصواتِ أناسٍ قادمين نحوه، وفجأة وجد نفسه وجهًا لوجه أمام عجلان بن محمد.
إنه أنت؟!
صاح عجلان فزعًا..
تراجع بضع خُطوات إلى الوراء، صارخًا: إنه كمين، كمين. وراغ إلى سيفه، ولم يمهله عبدالعزيز، صوّب نحوه بندقيته، وأطلق الرصاصة الوحيدة، سقط عجلان أرضًا يتلوى من ألم الإصابة في كتفه الأيمن، صرخ مستنجدًا، سحبته أيدي مرافقيه نحو الباب. رمى عبدالعزيز بندقيته أرضًا، وانقضّ عليه. تعارك الاثنان بحماسِ ثائر، كل منهما يحاول النيل من الآخر، صدّ عبدالعزيز بمهارةٍ عن نفسه ضربات مرافقي عجلان الذي ارتمى بنصفه الأعلى داخل القصر، فيما أمسك عبدالعزيز كلتا قدميه يسحبهما نحو الخارج، لا يريدُ أن يفلت من قبضته. يعرفُ أنّ الفشلَ مستحيل. تعالت الصّيحات، واحتدمت المعركة، صوّب فهد بن جلوي رمحه نحو عجلان، شق الرمح الفضاء مصدرًا أزيزًا حادًا، ودوّى صوته كانفجار قنبلة، مستقرًا في صدر الباب. صرخ فهد معترضًا، طوّح قدمه في التراب، وسعى نحو رمحه، طوى المسافة الفاصلة بينهما في لحظة طائرة، شارك عبدالعزيز في سحب عجلان إلى الخارج.
فجأة ظهر عبدالله بن جلوي كأنه لم يكن حاضرًا، ولم يُخطط له فعل ذلك، مدّ ذراعه إلى الداخل، مصوبًا سلاحه نحو عجلان، أطلق رصاصته الوحيدة. الرصاصة الأخيرة في معركة لم يبقَ منها سوى هذا الأمل لإنهاء سيطرة ابن رشيد وواليه الغاصبين على الرياض، وعلى صوت دويها، تراخى جسد عجلان مطلقًا خُوارًا عاتيًا، توقف عن المقاومة، وسقط على حافة باب قصر المصمك جثة هامدة، عيناه جامدتان كحجرين بركانيين، أصابعه متصلبة حول يديّ مرافقه، كما لو أنه مات منذ أيام.
لم يصدق عبدالعزيز ما حدث، ربت بسرعة على كتف ابن عمه، واجتاز بخفةٍ عتبةَ الباب الذي أُغلِق في وجهه منذ عشر سنوات، راح يعدو نحو مكتب عجلان، يهتف بحزم في أصحابه ألا ينالوا من مُسالم، أو يهتكوا عِرضًا، وكانوا كما عهد إليهم قائدُهم، يَعْدون في أرجاء القصر لتأمينه، وفي الجوار سمع جويسر صوت الاشتباك، تناهى إليه احتدام العراك، صاح في الفضاء فرحًا: لقد عادوا.. عاد الخير والأمن.
سألته زوجته مستبشرة: أهو عبدالعزيز الذي كان في دارنا؟
أومأ الرجل برأسه، رافعًا كلتا يديه في الهواء: نعم، نعم يا امرأة.
وما هي سوى لحظاتٌ حتى سمع جميعُ من في الرياضِ صوتَ منادٍ يهتفُ بصوتٍ متكرر: الحكم لله، ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
حين حدق عبدالعزيز في سماء وطنه لأول مرة، كان الطائر الغريب الذي حطّ على كتفه في الكويت يحلقُ هناك، يدور حول القصر، يصعد مرتفعًا إلى أعلى، ثم ما يلبث أن يهوي مثل حجر إلى أسفل، وعلى مقربةٍ غير بعيدة من متناول الأيدي، يعاود الطائرُ المتوهج جنوحه مرتفعًا نحو الشرق، يفرد جناحيه عاليًا وسط قرص الشمس، مغردًا بألحان ملائكية.
تبسّم عبدالعزيز بفرحٍ غامر، لم يشعر أنه يبتسم فعلًا غير لحظتها، غمغم بصوتٍ مرتفع: هذا من فضل ربي. وعيناه ترقبان تراقص الطائر في الأفق البعيد.
**
- كاتب يمني