اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الغرابة بمكان أن هناك ممّن يمارس الكتابة مَنْ يقع في الخطأ الفادح والجهل الفاضح عندما يتطرق إلى بعض الموضوعات الحساسة، كما هو الحال على سبيل المثال عند التطرق إلى موضوع الأديان والأيديولوجيات، حيث يجنح به سوء الفهم ويشطح به القلم إلى الخلط بين الأديان السماوية وبين والأيديولوجيات الفكرية والسياسية وما في حكم هذه الأيديولوجيات من المسميات والمصطلحات ذات الطبيعة المؤدلجة.
ومما يزيد الأمر غرابة اعتياد البعض على وصف دول فاشية ومتطرفة بأنها دول دينية، وهي أبعد ما تكون عن الدين الحقيقي والمنهج الديني الصحيح، وإنما اتخذت الدين غطاء لتغطية ممارساتها الفاشية والكهنوتية، كما اتخذته مطية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية ومطامعها التوسعية، ولسان المقال وواقع الحال كما قال الشاعر:
هم الناس لا يفضلون الوحوش
بغير التحيل للمقصد
فلا تتديَّن بغير الرياء
وغير النفاق فلا تعبدِ
ووصف الدولة بالدين يعد منقبة تمدح بها وليس مثلبة تعاب بموجبها، وشتان بين التوصيف التهكمي الساخر الذي يرفع من شأن ما هية الصفة، ويجعل منها حجة على عيوب ومثالب الموصوف وبين الوصف الانهزامي الفاتر الذي يترك المعنى عائماً يوحي بمدح الموصوف من حيث أراد قدحه والتهكم به.
وإشارة البعض إلى ما يريد من طرف خفي والتعويل على الرمزية والمعنى المبطن بدلاً من المعلن، معتمداً على فهم القارئ وقدرته على التمييز بين المعنى الظاهر والمستتر لا يشفع للكاتب إذا ما وقع في المحظور وفعل الفعل المنكور.
وتفادياً لسوء الفهم فإن مهمة صاحب القلم أن يتسحضر عقله ويُحسن عرض ما يكتب، ويحدد الهدف الذي يرغب حتى لا يعطي مبرراً للانتهازي الذي يجيد الخداع والمكر ويصطاد في الماء العكر، وفي الوقت نفسه يحسب حساباً لأصحاب الفهم السطحي الذين تخدعهم الصور الملونة وتنطلي عليهم المعاني المبطنة.
والدول الإسلامية يجمع بينها ثوابت دينية يتفق عليها الجميع بصرف النظر عن مستوى تطبيقها ودرجة تحقيقها في حين تتعامل كل دولة بمفردها مع المتغيرات بحسب قناعتها وقدرتها والأسلوب الذي يناسبها دون الإخلال بمبدأ التضامن والتعاون والوقوع فيما ذهب إليه الشاعر:
من ينصر الدين الحنيف وأهله
من بعضه عن بعضه مشغول
والدولة الإسلامية المعاصرة ذات العقيدة الدينية الصحيحة تفرض عليها عقيدتها انتهاج الوسطية والاعتدال بحيث ترفض الغلو والتقصير والإفراط والتفريط، وتتطور مع الزمن، وتتكيف مع كل زمان ومكان، متخذة من الوسطية والمحافظة على الثوابت الدينية شعاراً، ومن مواكبة العصر والتكيف مع المتغيرات دثاراً، جامعة بين الأصالة والمعاصرة انطلاقاً من أن توثيق الماضي وتأصيله يخدم عملية التطوير والتغير حيث أن الذي لا يتطور يندثر.
وانطلاقاً من أهمية المرجعية الدينية وأولويتها بالنسبة للدولة فإن ذلك يستدعي المحافظة على الانتماء الديني والاعتزاز به، واعتباره هو الأساس والمرجع للانتماءات الأخرى، إذ إن مّنْ فقد دينه فقد تاريخه وثقافته ووطنيته وقوميته وهويته وأصبح وجوده وبالاً عليه، مهما حاول التقليد الفاشل واعتنق الفكر الباطل، وقد قال الشاعر:
الكتب والرسل والأديان قاطبة
خزائن الحكمة الكبرى لواعيها
والوسطية في العبادات والمعاملات من الأمور التي حث عليها الدين لما تنطوي عليه من العدل، ويترتب عليها من الفضل نظراً لما تحققه من مبدأ التوازن بين مطالب الدين والدنيا والتوفيق بين ما يُصلح حياة المعاش وحياة المعاد، دون الوقوع في الغلو في جانب والتقصير في الجانب الآخر، وقد وصف الله الأمة الإسلامية بالوسطية في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). البقرة الآية 143، وقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوسطية بالعدل عندما قال: (الوسط العدل)، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير الناس هذا النمط الأوسط يلحق بهم التالي والغالي.
والثوابت الدينية تشكل جانباً من جوانب الوسطية دون الإخلال بخاصية الثبوت وضوابط الوسطية المعترف بها، وتتمثل الثوابت في شعائر العبادة وأحكام الشريعة، وعليها يتوقف صلاح الحياة العاجلة والآجلة، الأمر الذي يتطلب التمسك بها في المنشط والمكره وعدم المساومة عليها مهما كانت التكاليف والتضحيات، وقد قال الشاعر:
الأصل في الأديان صدق المعتقد
والبعد عن كبائر قد تُنتقد
ومتغيرات العصر الضرورية تمثل الجانب الآخر من الوسطية والوجه الثاني من عملية استخدام الفكر وتحريك دواليب العصر التي تشكل الثوابت وجهها الأول باعتبار المتغيرات تدعم الثوابت وتضيف إليها ما يستجد عليها من مكملاتها الضرورية التي تحتاجها الحياة المعاصرة تجاوباً مع تغيرات المكان ومستجدات وتداعيات الزمان الحافلة بالتجديد والتطوير والتغيير وكل ما من شأنه استقرار الحياة وازدهارها واستمرارها.
والإنجاز الديني هو قمة الإنجاز الحضاري وميدانه الثوابت الدينية وما يتفرع عنها من متغيرات، كما أن حركة التطوير والتجديد ومواكبة عصر النهضة مسرحها المتغيرات على ضوء ما تستمده من ثوابت الدين والعلوم والمعارف الحديثة والتقنية وما نجم عنها من منجزات تم تحقيقها عبر التاريخ على مختلف المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والسياسية.
والإسلام بثوابته ومتغيراته يدعو إلى التسامح والتعايش السلمي والانفتاح على الجهات الأخرى والتعامل معها على مرجعية أخلاقية تحترم مبدأ الندية في التعامل وتدعو إلى الاحترام المتبادل بين الثقافات في بيئة آمنة ومستقرة تقيم دعائم الحق وتدحض الباطل وتنشر الأمن والسلام في أرجاء المعمورة بعيداً عن الظلم والابتزاز والجنوح إلى الصدام الحضاري ومحاولة تثقيف الآخرين بالقوة وإخضاعهم للتبعية الثقافية والسطوة الاستعمارية.
والمملكة بفضل قيادتها الرشيدة وتجاوباً مع رؤيتها السديدة ونظرتها البعيدة تسير في الاتجاه الصحيح وتتعامل مع الآخرين بالأسلوب الصريح والخطاب الفصيح من خلال سياستها المعتدلة ومبادراتها وإصلاحاتها الداخلية والخارجية ومشاركاتها الإقليمية والدولية، محافظة على الهوية الدينية والخصوصية الثقافية والانتماءات الوطنية والقومية والإسلامية رغم طغيان نظام العولمة وتجاوزات أصحاب الأيديولوجيات الوافدة والأفكار المستوردة والعادات الفاسدة.