أحلام العامري
مقاومة التغيير وعدم الخروج عن النص، والتشبث بالموروث دون وعي والتوجه نحو طرق مرسومة سابقاً، وتقمص الأدوار المكتوبة بطريقة غير مواتية. من الأخطاء الشائعة في التربية أن نمارس على أبنائنا الأساليب نفسها التي طبقت علينا أن نجعل منهم نسخة مكررة منا أن نعودهم على الطاعة العمياء تحت مسمى السلطة الأبوية، وتنفيذ الأمور تلقائياً تحت مسمى (خططهم المستقبلية).
يسيء بعض الآباء استخدام معنى خفض الجناح، فنرى أن أبناءهم ظلوا في أحجية الحياة، فمن الحرص الزائد طمست معالم شخصياتهم، والتحكم العشوائي صادر رغباتهم، والدلال المفرط محا مسؤولياتهم، والشح العاطفي أظمأ عواطفهم، وتصيد أخطائهم بدّد قدراتهم هنا تتشعب وتمتد أجنحة الآباء في سماء أبنائهم المنخفضة، وتُضيق آفاقهم المتسعة. يستخدم بعض الآباء دليل أنا تربيت كذا أو هذا ما وجدنا عليه آباءنا، ويبدؤون بالتعامل الأبجدي مع أبنائهم من المهد، ويطبقون التعاملات والاهتمامات نفسها وحتى ردات الفعل مشابهة تمامًا لآبائهم في أثناء نشأتهم، اعتقاداً منهم أنها الطريقة المثالية للتربية.
وعلى الكفة الأخرى ينشأ جيل مصاب بالهشاشة النفسية، أو الخجل الاجتماعي، أو عدم تحمل المسؤولية، أو السعي وراء إرضاء الآخرين، أو الكمال الوهمي أو الأسوأ من ذلك، وهو البحث عن ذواتهم المفقودة في علاقات خطرة، أو الهرب من الواقع إلى اتجاهات منحدرة . قرأت في أحد الكتب عن (متلازمة الحب الخشن، وهو عندما يربط الوالدان حبهما لأبنائهما بمدى نجاحهم في الدراسة أو مدى إرضائهم لرغباتهم فيتشكل لديهم تصور خاطئ أن القسوة وتلبية احتياجات الآخرين علامة من علامات الحب وتقبل الآخرين لهم، حتى إنهم يقيسون قيمتهم الذاتية من خلال رأي الآخرين عنهم. وعندما تنتش تلك الأجنحة الناعمة وتدفعها على غصن مجدب للتحليق، فلا تجد إلا كواسر حَطَّت في فضاء معتم ولا تسمع إلا ارتطام أحلامهم نحو قاع قاسٍ.
ومن هنا يبدأ معشر الآباء في تدارك الوضع ومحاولة إنقاذه، يتفقدون «الدليل» ما إن أخطؤوا استعماله، أو قصروا في تطبيقه، يبحثون بين طياته عن حلول للخطأ الوارد وفي الحقيقة إنهم لو رفعوا رؤوسهم عن هذا الدليل وتمعنوا في أنفسهم لعرفوا أين تكمن المشكلة وحلها.
إن سلامة ومتانة البنية التحتية لمستقبل الأبناء وشخصياتهم متصلة بشدة في رصانة واتزان علاقتهم بآبائهم، لأنهم الجزئيات المتجذرة بداخلهم كالملح واضمحلاله بالماء سريعاً إطلاقًا لا أعني أن الآباء قاصدون إفساد أبنائهم ومستقبلهم، بل أكاد أجزم بأن هذا النوع من الآباء يُكنون حبّاً وخوفاً لا متناهياً لأبنائهم، وإنهم مستعدون لبذل أرواحهم من أجلهم، بالطبع، فالله سبحانه وتعالى أودع هذه العاطفة في قلوبنا، وجعلها غريزة نعجز عن سبر غورها، ولكن قلة الوعي بالتربية السليمة وضعتهم في مرمى ضربة الجزاء الحاسمة، وتطبيق النموذج القديم أسقطهم في الهوة الجيلية بين الأجيال.
نحتاج إلى التحديث المستمر لدليل التربية حتى نغلق الثغرات التي تسبب القرصنة الذاتية، وأن نضبط إعدادات العصر بما يوائم الجيل الحالي، وأن نشحن عواطفهم الفارغة ونركز على احتياجاتهم النفسية إضافة إلى أن الحوار الجيد ومهارات التواصل بين الآباء وأبنائهم كفيلة أن تؤتي أكلها كل حين. كذلك فإن التوقف عن المقارنات وتقبل وجهات النظر، أجدر هي الأخرى بتقريب المسافات والاستماع لهم وترك مساحة للتعبير والاختيار دون عواقب مترتبة سوف تجذب القطبين المتنافرين لأن أبناءنا هم زينتنا وزخرفة بيوتنا، هم لب قلوبنا وخامة ذواتنا هم جذرنا وفرعنا وطينة أرضنا، هم بذورنا التي طمرت في أعماق حياتنا، فمن الأولى أن نبذل الأسباب في خلق بيئة تربوية صحية لهم.