عبدالوهاب الفايز
الإجابة الموسعة على هذا السؤال ربما تأتي في إطار الفهم العميق للاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام، ولكن الإجابة العملية التي تهمنا مباشرة، وشجع على طرحها هنا مجددًا التقرير الأخير لـ (صندوق التنمية الوطني). لدعم الاقتصاد الوطني، قدمت منظومة الصناديق والبنوك التنموية التابعة له خلال النصف الأول من العام الجاري تمويلاً ودعمًا تجاوز (14.1) مليار ريال.
هذا التمويل والدعم الموجه لخدمة تنمية بلادنا يجعلنا نسوق الأماني لنقول: ليت للإعلام السعودي نصيباً يسيراً منه.. بالذات للصحافة المحلية. فهذه المؤسسات التاريخية لا تقل أهمية عن المشاريع التنموية الأساسية. دعم الصحافة هو: دعم لموروث الدولة وحيويتها السياسية، ودعم للتنمية.
الدعم الذي تحتاجه الصحافة مطلوب في مسارين. الأول العاجل هو (دعم العمل الميداني) للصحف المحلية حتى تواكب النقلة الكبرى الجارية لبلادنا، فغياب التغطية الصحفية العميقة أثر على حضور إنجازات بلادنا، بالذات إبراز منجزات برامج الرؤية. مع الأسف البديل لدى بعض الأجهزة الإنفاق على المؤثرين والمؤثرات!
الثاني دعم برنامج (سنة دراسية تدريبية) لطلاب كليات الإعلام بحيث تكون السنة الرابعة (عملاً ميدانيًا) كاملاً محكومًا بالضوابط والمستهدفات ومؤشرات الإنجازات. هذه نحتاجها لتعويض غياب التدريب في الجامعات، وهذه السنة ضرورة لبناء مهنة الصحافة.
العمل الميداني هو روح الصحافة، فالصحفي الذي لم يندعك في الميدان لسنوات طويلة لن يتعلم المهنة. (وهذا لن يتعلمه الذكاء الاصطناعي)، فالعمل الميداني هو انغماس بحياة الناس واحتكاك وتفاعل مع كل جوانبها المبهجة والتعيسة وهمومها وتحدياتها. الصحافة مهنة تقيس نبض الشارع وتحدد مستوى (الحرارة والضغط)، وتبحث عن الحلول للمشاكل مستعينة بالخبراء وبالمختصين، فهي جزء أصيل من الحل.
وهذا هو الذي يجعلها جزءًا أصيلًا لموروث الدولة ومساهماً رئيسيًا في رحلة تشكلها وبناء مكوناتها. والعمل الميداني هو الذي أنقذ الصحافة في الغرب والشرق، ووسع أثرها وتأثيرها بالذات الصحف التي لم تفرّط بكتابها وطواقم تحريرها. هذه الآن تتسيّد المشهد الإعلامي في بلادها، وتستمتع بأوضاعها المالية الجيدة التي مكنتها من إعادة بناء مشاريعها الإعلامية العملاقة التي تضيف لـ (موروث الدولة) وتدافع عن مصالحها بكل كفاءة ومهنية.
الصحافة لها دورها الذي يعكس حيوية الدولة. غالبًا يُنظر إلى الصحافة النابضة بالحياة والمستقلة على أنها ركيزة لحيوية النظم السياسية حيث تساعد على المساءلة للأجهزة التنفيذية التي تتصدى لمصالح الناس، وتتبنى الأمور التي تهم الدولة وتنقلها إلى الجمهور، وتعزز النقاشات والحوارات العامة. أيضًا الصحافة تعد رافدًا للأرشيف الوطني والسجل التاريخي الذي يوثق الأحداث والقصص والأفكار المهمة التي تشكل هوية الأمة.
وفي التاريخ الحديث، أول من اعترف بأهمية الصحافة لمكونات الدولة وموروثها الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون. بعد انتخابه رئيسًا دافع عنها بشدة في رده على رسالة ساخرة لأحد أصدقائه بعد هجوم الصحافة عليه كرئيس رغم أنه المدافع الأبرز عن الصحافة. كان هذا في العام 1787، ولم يتراجع جفرسون عن قناعاته بل دافع عن الصحافة لأنه يثمن دورها الأكبر في حيوية الدولة. رد على صديقه قائلاً: (لو أننى خُيّرت بين أن تكون لدينا حكومة دون صحف، أو صحف دون حكومة، لما ترددت لحظة فى تفضيل الخيار الأخير).
أيضًا في بريطانيا كانت الوثيقة العظمى (الماجنا كارتا، 1215م)، أول وثيقة رسمية رسخت حماية حرية التعبير، وكان ظهورها لأجل دعم الصحافة. وفي زمننا الحالي حيث تواجه الصحافة حقبة التحول الرقمي، التي وضعتها في موقف مالي صعب، ظل أغلب القادة السياسيين مؤمنين بأهمية استمرار الصحافة وبضرورة المحافظة على حيويتها. رئيسة الوزراء البريطانيه السابقة تريسا ماي سعت لتقديم برنامج للبرلمان يتبنى دعم الصحف المحلية التي تواجه مصاعب مالية، لإيمانها بأهمية المحافظة على دور الصحافة في دعم النقاش والحوار الذي يعزز حيوية الحكم والإدارة المحليين. أيضًا في فرنسا، لدى الرئيس ماكرون قناعة بضرورة دعم الصحافة لأنه يراها جزءًا من موروث الدولة.
وهذه القناعات السياسية بأهمية الصحافة ترجع للفهم الصحيح والعميق لحركة التطور والتغيير، فهؤلاء يرون الصحافة كـ (مهنة) أساسية لا تندثر أو تنتهي. لا يرونها وسيلة فقط كما يفعل أصحاب الاهتمام البعيد عن الفكر والثقافة والإعلام. كما انتهت النار كوسيلة لنقل المعلومات في العصور الأولى للبشرية، ينتهي الورق كوسيلة ناقلة للمعلومة. وبقاء المهنة وعدم انقراضها هو الذي يدعم الرغبة والحاجة إلى دعم الحكومات لمهنة الصحافة. الدعم غايته أن تبقى الوظيفة الحيوية للصحافة كإضافة لموروث الدولة.
الصحافة منذ نشأتها قبل بضعة قرون كانت تقوم بأدوار مهمة منها تنمية واحتضان الفكر والثقافة. فالصحافة تساعد في تشكيل الهوية الثقافية للبلد عبر دعمها للأدب والفنون وغيرها من أشكال التعبير الإبداعي. والصحف والمجلات تخصص أقسامًا للأدب والشعر والموسيقى والسينما، وهذا يسهم في حفظ التراث الثقافي للدولة. كما تدعم المؤسسات الصحفية وتوفر منصات لتبادل الأفكار وتعزيز الإبداع والتنوع في المجتمع.
وتوفر منصة لتنوع الرأي حيث تتحيح للخبراء والمختصين ولعامة الناس الفرصة لتقديم أفكارهم وآرائهم واهتماماتهم ووجهات نظرهم. وهذا يعزز النقاش العام الصحي ويساعد المسؤولين، ويضمن سماع وجهات النظر المختلفة. وفي المملكة بقيت الصحافة لسنوات طويلة تساند الحكومة في جهود البناء والتحديث والتطوير الاقتصادي والاجتماعي. ويعد الأرشيف الصحفي السعودي هو الوعاء الأوسع الذي دون هذا التاريخ وحفظه للباحثين والدارسين.
الآن نتداول باهتمام صورًا أرشيفية لبلادنا منشورة في الأعداد القديمة من الصحف، ونحفظها كمقتنيات أثرية تاريخية قيمة لأن فيها لمحة عن تراث بلادنا وتقدم إطلالة جميلة على ماضيها. قبل سنوات عندما رجعت الصحف السعودية إلى أرشيفها القديم أخرجت صفحات شيقة. هذه الصفحات حينئذ استقطبت اهتمام الأجيال الجديدة التي لم تدرك أهمية جهود التأسيس الذي قام به الملك عبد العزيز ورجاله -رحمهم الله. أيضًا معظم الكتب والمذكرات والرسائل العلمية استندت إلى أرشيف الصحافة السعودية لبناء مادتها.
أخيرًا، نقول لتعزيز دور الصحافة في موروث بلادنا، ثمة آلية سهلة لدعم العمل الميداني للصحافة. يمكن إنشاء صندوق يكمل منظومة الصناديق الوطنية. يتم تغذيته عبر اقتطاع نسبة لا تقل عن عشرة بالمائة من مخصص الإعلام المعتمد في ميزانيات الوزارات والهيئات وتحويلها للصندوق، مع فتح الصندوق للتبرعات والهبات. هذه الآلية ربما تكون الأفضل لدعم المؤسسات الصحفية ودعم محرريها من السعوديين. وإذا كان هناك وسيلة أفضل للدعم فلا مانع، إذا وجدت الإرادة وجدت الوسيلة!