د. سامي بن عبدالله الدبيخي
استعرضت مجلة الإيكونيميست The Economist في عددها الصادر بتاريخ 9 سبتمبر 2023م «دور التخطيط العمراني للمدن في معاضدة التوسع بقطاع الإسكان» ودعم جهود المسؤولين لتحقيق المستهدفات على المستوى الوطني والمحلي. يوضح التقرير كيف أن الدول المتحدثة بالإنجليزية استلهمت تشريعاتها العمرانية التقليدية من قانون التخطيط البريطاني Town Planning Act in 1909 والمعدل لاحقاً باسم the Town and Country Planning Act 1947 وظهور تيار حديث يدعو لإعادة التفكير عمرانياً لتبني توجه رفع الكثافات في المدن «Upzoning» لاستيعاب الزيادة السكانية مع ربطها بخدمات مستدامة مثل النقل العام لتفادي التوسع العمراني الأفقي المكلف في توفير الخدمات والمرافق، والسماح للمطورين العقاريين برفع الكثافات. فأسعار العقارات السكنية تزداد طردياً كلما كانت قريبة نسبياً من المناطق التي تتوفر فيها الوظائف والخدمات العامة والبنى التحتية.
تقوم تلك التشريعات التقليدية على إعطاء الأولوية لساكني الفلل المستقلة ذات الكثافات المنخفضة للحد من التدهور العمراني slums وظهور العشوائيات. والنتيجة هي أن 80 % من الإنجليز يعيشون الآن في وحدات مستقلة مقابل 6 % فقط يسكنون عمائر أكثر من 3 أدوار. في حين أن دولاً تبنت سياسات تخطيطية تحفز كثافات مرتفعة نسبياً أدت إلى أن 44 % من الفرنسيين يعيشون في عمائر. وبالنظر إلى ما تم إنجازه من وحدات سكنية خلال الفترة من 2000-2020، زاد إنتاج بريطانيا من 43 إلى 44 وحدة سكنية لكل 100 شخص، ومن 41 إلى 42 في أمريكا ومن 40 إلى 41 في أستراليا. بالمقابل فإن الدول التي سنت تشريعات تشجع على رفع الكثافات السكنية جاء أداؤها أفضل. فقد رفعت فرنسا قدرتها الإنتاجية خلال الفترة نفسها 2000-2020 من 50 إلى 55 وحدة لكل 100 شخص، وألمانيا من 47 إلى 52 واليابان من 42 إلى 49.
ويؤدي التخطيط منخفض الكثافة إلى التمدد والانتشار العمراني الذي يشكل معضلة وتحدياً كبيراً للمدن بسبب تفاقم زيادة زمن الرحلات اليومية للعمل ورفع كلفة الخدمات وأسعار المساكن والإيجارات. فإيجار شقة ذات غرفة واحدة في كاليفورنيا مثلاً يستحوذ على 63 % من متوسط راتب الموظف. أما في مدن مثل إيرلندا ولوس أنجلس وسيدني فقد تم شراء كل الأراضي ضمن نطاق 80-90 كم عن المركز لدرجة أنه أصبح من الصعب إيجاد مساحة لشق الطرق لبلوغ المركز.
يكمن مصدر هذه المشاكل في تنامي تيار معاداة التطوير بكثافة والمعروف بمصطلح Nimbyism «Not in My Backyard»، حفاظاً على أسعار العقارات وجماليات الأحياء. إلا أنه في العقد الأخير برز تيار مناهض بمسمى Yimbyism «Yes in My Backyard» يدعو لسن تشريعات ترفع من كثافة التطوير لكنه نجح في بعض الحالات مثل مدينة أوكلاند -نيوزيلاند، وتعثر في حالات أخرى بسبب الدعاوى التي يرفعها أصحاب المصالح مستغلين القوانين التخطيطية ذاتها لكبح أي تطوير جديد تارة بحجة التأثيرات البيئية وأخرى بمتطلبات المواقف والاختناقات المرورية ومرة بحجة تشويه المشهد الحضري والإزعاج الضوضائي، إلخ. رغم ذلك هناك من قبل بتصريح لبناء ملحق في حديقة البيت وهو ما لم يشهد اعتراضات حادة كبناء مساكن جديدة. إلا أنها لن تفي بتغطية الطلب القوي على المساكن الجديدة.
لذا يؤكد التقرير على أن هناك حاجة لمزيد من الإصلاحات التشريعية في التخطيط العمراني لصالح زيادة كثافة التطوير «Upzoning» لتعزيز الإسكان. ففي مدينة أوكلاند نيوزيلاند 2016 مثلاً، تم تمرير تشريع يسمح برفع الكثافة، فقام أصحاب الفلل بتطوير عمائر بدلها لأنها تعود عليهم بأسعار أعلى رغم انخفاض تأجير الوحدة السكنية. وجدير بالذكر أن هذه التشريعات العمرانية المتحيزة لفئات اجتماعية دون أخرى لها كلفتها الباهظة. فبريطانيا مثلاً، بحاجة لما يناهز 4.3 مليون وحدة سكنية لتعادل ما أنجزته نظيراتها من الدول الأوروبية التي تبنت سياسات تخطيطية تحفز التطوير بكثافة مرتفعة نسبياً. أما في أمريكا، فإن تقاعس مدنها في تبني سياسات تخطيطية تحفز رفع الكثافات السكنية يكلفها 9 % من الناتج المحلي الإجمالي GDP.