اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لا شك أن المرء الذي يرغب أن يوصف بأنه منضبط في عمله يتعين عليه الخضوع للواجب والإخلاص في تأدية ما يطلب منه من عمل بالإضافة إلى التحلي بروح الفريق والإقبال على العمل بنفس راضية ومعنوية عالية، جامعاً بين الدراسة والممارسة والنظرية والتطبيق بشكل يُمّكنه من إجادة عمله ومسايرة روح العصر والتعامل مع التقنية الحديثة.
ونجاح المؤسسة في مهمتها مرهون بانضباط المنتمين إليها وخضوعهم لنظامها والأوامر والتعليمات الصادرة من قيادتها في سبيل إنجاز مهمتها وبلوغ أهدافها، وما يفضي إليه ذلك من تنمية روح الفريق وتوحيد الجهود والشعور بأهمية العمل المشترك تحت سقف قيادة واحدة ذات مسؤولية محددة ومعرفة متجددة.
ويُعّرف الانضباط بأنه حالة عقلية ونفسية وممارسة عملية تجعل الطاعة والخضوع للواجب والسلوك السليم والتصرف القويم من الأمور الغريزية مهما كانت الظروف واختلفت المواقف مع الاحترام والولاء للسلطة.
وفي السياق التعريفي نفسه فإن الانضباط هو موقف الفرد والجماعة الذي يضمن الطاعة للأوامر والبدء في العمل المناسب في حالة عدم وجود الأوامر، ضماناً لاستقرار الوحدة أو المؤسسة واستمرار العمل.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الانضباط يترجم مستوى سلوك المقودين أفراداً وجماعات، ومدى ما يتحلون به من الكياسة والمظهر الحسن والأخلاق الحميدة والالتزام بالعمل والانتماء إلى المؤسسة والوطن والتصرف السليم في كل ما يفعلونه من أمور بهدف القيام بالعمل الفردي والجماعي على أفضل مستويات الجودة وأعلى درجات الدقة.
والانضباط يعد من الأمور الضرورية لتحقيق النجاح على مختلف الأصعدة نظراً لما ينطوي عليه مفهومه من طاعة الأوامر والتمسك بالنظام والتقيد بالقوانين والقواعد المرعية واحترام التقاليد والأعراف الإنسانية والحث على الفضائل ومكارم الأخلاق.
والانضباط الصحيح هو الانضباط الناتج عن الرغبة والقناعة الذاتية بحيث يهدف إلى توحيد الجهود وتنظيمها لضبط ميزان حرية العمل ضمن حدود فكرة الأوامر مع الإبداع في التنفيذ دون تجاوز الحدود، وقد قال عنه المارشال فوش: إنه العمل ضمن فكرة أمر القائد بعد الدراسة والبحث وتفهم المتاعب والمشاكل الواجب حلها.
وتأسيساً على ذلك فإن الانضباط يتأتى عن طريق الرغبة في ضبط النفس والمسك بزمامها في المنشط والمكره لكي تتوافق مع مطالب القادة ومصلحة العمل، ورغم أن ذلك يعد ضرورة ملحة لجميع المهن إلا أنه من ألزم اللزوميات بالنسبة للمهنة العسكرية لما يكتنفها من مخاطر وتحتاج إليه من تضحيات.
وتتوقف كفاءة وأهلية المؤسسات العسكرية والمدنية على رصيد المنتمين إليها من الانضباط القائم على حب العمل والحرص على أداء الواجب في بيئة يسودها التوجيه والإرشاد وترويض النفس على كل ما هو حميد ومفيد، كما يتم فيها صقل الفضائل الموهوبة بإضافة فضائل مكتسبة إليها من خلال التعليم والتدريب والعادات الانضباطية الحميدة، وقد قيل: يقاس تأثير البيئة على خُلق المرء بمقدار ما تطبع فيه من حقائق، وقال الشاعر:
إذا كنت من حسن الطباع مركباً
فأنت إلى كل القلوب قريبُ
ومن مزايا الانضباط أنه يضبط الأهواء الشخصية ضمن إطار المصلحة العامة بحيث تتوقف حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين، إذ إنه إذا ما غاب الانضباط قرر كل فرد بنفسه ما يجب عليه عمله، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار الفريق وتفككه ويلحق الضرر بالمصلحة العامة.
ومن هذا المنطلق فإن الانضباط يعمل على تحديد الجهود وتوحيدها بحيث يكون العمل مثمراً بصورة ينعكس مردودها على معنويات المرؤوسين وعلاقتهم بقادتهم والجهد الذي يبذلونه بعيداً عن كل ما يُضعف شخصية المرؤوس ويذيبها.
ويمكن تنمية الانضباط في العقل عن طريق التعليم والتدريب بوصف ذلك يغذي القوى العقلية والمعنوية، ويغرس في الذهن حب النظام والانقياد للسلطة وضبط النفس والسلوك المنتظم، علاوة على اكتساب المهارات والعادات السليمة التي يترتب على اعتيادها وتكرار القيام بها اقتناع المرء بصحة ما يعتقده حتى في حالة غياب الأوامر، وقد قال الشاعر:
نصحتك لا تألف سوى العادة التي
يسرك منها منشأ ومصير
فلم أر كالعادات شيئاً بناؤه
يسير وأما هدمه فعسير
وبفضل التعليم والتدريب والتجارب والخبرات يصل الانضباط إلى مرتبة التفكير الناضج والتصرف السليم إلى الحد الذي يجعله يتأصَّل في النفوس ويدخل في دائرة الالتزام، وما يعنيه ذلك من انعقاد النية وعقد العزم على التمسك بالهدف ومبايعة النفس للمهنة والتضحية في سبيل تأدية الواجب مع الأخذ في الحسبان احترام المرجعية الشرعية والسلطة القانونية، ووضع الأمور في مواضعها وإرجاعها إلى مراجعها.
وفي ظل القيادة الواعية فإن الإنسان القادر على ضبط نفسه يستطيع أن يؤثر في منسوبي مؤسسته بحيث يحافظ الجميع على النظام والانسجام بفضل ما يجمع بينهم من روابط الزمالة وروح الفريق ووحدة الهدف، واعتبار الانضباط الجماعي نتيجة طبيعية للانضباط الفردي.
والانضباط بحسب الدافع المحرك له ينقسم إلى قسمين أحدهما طوعي ومبعثه الرغبة والاقتناع والخضوع للواجب والآخر مفروض ومرجعه الخوف من العقاب، والأول يمثل جوهر الانضباط وهو المحور الذي تتمحورحوله وتنطلق منه أسس الانضباط وسماته وفضائله، وبفضله يصل إنجاز المهام وتأدية الواجبات إلى مرتبة الإجادة والإبداع، والثاني يحتاج المقودين فيه إلى المراقبة المستمرة والمعاملة بموجب أنظمة ولوائح العمل وما تشتمل عليه من العقوبات والجزاءات.
وتحديد الفروق الفردية بين الأتباع والتعامل معهم بعدل يتطلب من القائد معرفتهم والتأكد من خضوعهم للواجب وروحهم المعنوية وروح الفريق والمحافظة على الكرامة ومراعاة العامل البشري واتباع السياسة العادلة عند منح الثواب وإيقاع العقاب، آخذاً في الحسبان أن كلا من الروح المعنوية والفضيلة الانضباطية وروح الفريق تنمو وتزدهر في جو الإنصاف والثقة والاحترام.
ومطلوب من القائد أن يكون قدوة لأتباعه، وأن يعرف الفروق الفردية بينهم، ومن ثم يقتنص الفرص لاكتشاف المواهب بغية استغلالها لمصلحة العمل بعد أن يميز بين كل مرؤوس وآخر، بما يخدم مؤسسته وينهض بمستواها، مستخدماً الحفز والتشجيع لإبراز المواهب وبث روح المنافسة الشريفة بين المرؤوسين وتسخير ذلك لتنمية روح الفريق وحب الوحدة وخدمة المصلحة العامة.