د.عبدالله بن موسى الطاير
أمريكا موحدة ضد الخارج ومنقسمة في الداخل وهذه دلالة قوة وليس ضعفاً؛ إنها تتحرك ككتلة ضخمة واحدة لاستهداف عدوها في الخارج، أو الانتقام من الآبقين على سلطتها. ليس بالضرورة أن تشن لذلك حرباً مباشرة، فلديها القدرة على الإيذاء من بعيد، وتسخير حلفائها وعملائها للقيام بالمهام نيابة عنها، وإذا أعيتها الحيل فإنها تتصرف ضمن تكتل متفق معها في المبادئ والقيم والمصالح مثل بريطانيا ضاربة بالشرعية الدولية عرض الحائط. قد تشن هجمة بوابل من الصواريخ من على بعد آلاف الكيلومترات، أو ترسل جنودها لتأديب دولة أو نظام ما، غير آبهة بردود فعل المنظومة الدولية، دولاً أو منظمات، حصل ذلك مع حاكم بنما مانويل نورييغا، وصدام حسين ومعمر القذافي. أمريكا تملك اليد العليا في تسخير المنظمات الدولية لخدمة مصالحها وعزل أعدائها، ومضايقة منافسيها. إنها تسيطر على مفاصل النظام العالمي الحالي بدون منافس والانعتاق من قبضتها يتطلب وقتاً ليس بالقصير، مع أنني لا أرى منافساً على استعداد لتحمل مسؤولية مواجهة أمريكا ولديه الإمكانات التي لديها.
أما في الداخل، فإن أمريكا مقسمة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ويُستغرب أن تُمثل خمسون ولاية دولاً بحزبين فقط، بينما دول أصغر بكثير من أمريكا يتقاسم أصواتها عدد كبير من الأحزاب. صحيح أن هناك أحزاباً تظهر وتختفي مثل الحزب التقدمي، والحزب الليبرالي، وحزب الخضر، لكن هذه الأحزاب لا تحظى عادة بمستوى الدعم الذي يتمتع به الحزبان الرئيسيان.
انجذاب النظام السياسي الأمريكي نحو الحزبين له مبررات منها نظام التصويت بالأغلبية، الذي يحصل فيه الفائز على كل شيء، وهذا لا يشجع التصويت لمرشحي حزب ثالث لأن الناخبين يشعرون أن التصويت لحزب ثالث قد «يضيع» أصواتهم دون جدوى. كما أن نظام الحزبين راسخ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ وقت مبكر، وعلى الرغم من أن الأحزاب نفسها تطورت بمرور الوقت، إلا أن هيمنة الحزبين الرئيسيين استمرت. ومعلوم بالضرورة حجم التحديات الهيكلية التي تواجه أي حزب ثالث فهو لن يكتسب قوة جذب بسبب قوانين الوصول إلى صناديق الاقتراع، وصعوبات جمع التبرعات، والتغطية الإعلامية التي أصبحت مبرمجة بقناعات راسخة على الحزبين الرئيسيين. كما أن الحزبين الجمهوري والديموقراطي يتمتعان بمرونة للميل نحو الوسط في الانتخابات الوطنية لجذب شريحة واسعة من الناخبين، وهذا لا يترك مجالاً كبيراً لأحزاب أخرى أن تتميز ببرامجها ما لم تركز على القضايا المتخصصة مثل البيئة (حزب الخضر) وهذه القضايا لا تستهوي عامة الأمريكيين الذين يمثلون الثقل التصويتي. عبقرية الحزبين التي تطورت مع الزمن تسد المنافذ على الدخلاء، وتصنع الفرص للتنوع في داخلها؛ فالنظام الأولي للناخبين يسمح لهم باختيار مرشح من داخل الحزب، مما يوفر آلية لاستيعاب مجموعة واسعة من وجهات النظر، مما يقلل من الحاجة إلى الانشقاق على الحزب.
هذا النقاش مهم لفهم حدة الصراع بين الحزبين من جانب، والتوافق الذي يحكم في القضايا الكبرى، وميل زعماء الحزبين إلى أن تبقى أمريكا موحدة في الخارج رغم انقساماتها العميقة في الداخل. وبتنزيل ذلك على المحاكمات المفضية إلى عزل الرؤساء لم ينجح أي حزب في مسعاه. في تاريخ أمريكا حوكم ثلاثة رؤساء في الكونجرس وهم أندرو جونسون عام 1868م وقد نجا من العزل بفارق صوت واحد في مجلس الشيوخ، وبيل كلينتون عام 1998م، وفشل التصويت في مجلس الشيوخ في حشد أصوات الثلثين، وبذلك استمر في الحكم، ودونالد ترامب الذي حوكم في الكونجرس مرتين عام 2019 و 2021 وفشل مجلس الشيوخ في عزله في الأولى، وفي إدانته في الثانية لأنه كان خارج السلطة.
مصير المحاكمة الرئاسية التي أعلن عن بدء أولى خطواتها زعيم الجمهوريين في الكونجرس لن تخرج عن هذا النمط، ولن تطيح بالرئيس بايدن، لأن مجلس الشيوخ بيد الديموقراطيين بداية، وتحقيق أغلبية الثلثين شبه متعذرة في ظل حدة الاستقطاب بين الحزبين.
الدرس المهم الذي تفهمه الدول في التعاطي مع السياسية الأمريكية هو عدم التورط في الشأن الحزبي الأمريكي بالمراهنة على الفجوة بين الحزبين، فجميع الذين راهنوا على ذلك فشلوا في تحقيق مصالحهم على حساب مصلحة أمريكا الموحدة في الخارج. كسب الأصدقاء من الحزبين مهم في التعامل مع أمريكا، واحترام الممارسة الداخلية يكوّن رصيداً من الثقة طويل الأمد للدول المتعاملة مع أمريكا. مسألة تدخل أمريكا في الشؤون الداخلية للدول شأن مختلف تماماً، وسيخسر من يعامل أمريكا بالمثل.