د. فهد بن أحمد النغيمش
إن الوجود الحقيقي للمرء, ليس في كونه حيّاً يأكل ويشرب وينكح، أو يجمع الدنيا ويتجر ويربح، أو يغلب من سواه ويستبد ويشح، ولكن الوجود الحقيقي له، هو وجوده في القلوب، فكم ممن هو بين الناس بجسمه، بعيد عن القلوب في منأى ع الأفئدة, وكم من آخر قد مات ومرت السنوات على فقد العيون له، ولكن القلوب ما زالت تَراه ولا تملّ من ذكراه, إنه الأثر الجميل والفعل الحميد الذي بقي لك سيرة عطرة في حياتك وبعد مماتك نتيجة صنيعك وفعالك الحميدة.
إننا حين نقلب في تاريخنا الغابر، نجد الذاكرة متخمةً بأسماءٍ لامعة، إذا ذكروا ذكر معهم الثناء العاطر، والذكر الحسن، والدعاء بالرحمة والمغفرة لماذا ؟ لأنه كان لهم وجود في حياتهم واستمر هذا الوجود حتى بعد مماتهم جراء ما قدموا من أعمال جليلة وكريمة سواء كانت ميراثاً علمياً أو أخلاقياً او أي مبادرة كان فيها نفع له وللمسلمين كافة.
أعلام وعظماء غيِبوا في الثرى، لكن ما غاب ذكرهم، وما محي أثرهم، بل إن ذكرهم بعد مماتهم أكثر من ذكر كثيرٍ من الأحياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إن الذكر الحسن في الدنيا ليس بكثرة المكث فيها، وإنما بقدر الأثر عليها، لذا يحرص المرء أن يكون له أثر حميد وحسن بعد مماته فيقال عنه إذا ذكر في حياته (أنعم به من رجل وأكرم، ساهم وقدم وأعطى وعلم وهذب وكفى) ويردد الناس سيرته بعد مماته فيقال عنه (غفر الله له كان طيب الذكر والمعشر قدم وأعطى وبذل) كن ممن يقال عنهم:
وكن رجلاً إن أتوا بعده
يقولون مر وهذا الأثر
و الذكر الطيب للإنسان عمر ثان دعا بذلك أبونا إبراهيم عليه السلام فقال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} بل هي والله من أعظم المناقب أن تغيب عن هذه الدنيا بجسدك ويبقى ذكرك شامخاً كالطود العظيم.
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان
هناك نظرة عجيبة من بعضهم للشخص المتقوقع حول نفسه والذي ليس له مشاركة مجتمعية أو أي إسهامات تنموية في مجتمعه حيث يظن بعضهم إنه هذا هو الشخص المستقيم الذي يذكره الناس بالخير ويثنون عليه وينال من المحامد والثناء والأجر من رب السماء الشيء الكثير, وذلكم لعمري ليست بمنقبة حميدة ولا خصلة كريمة، فالذي يخالط الناس ويصبر عليهم وعلى أذاهم ويعمر الأرض ويصلحها خير من ذاك القاعد في بيته في سبات ليس له أدنى مشاركة أو نفع لمن حوله،جاء عنه- صلى الله عليه وسلم- إنه قال: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ).
أن يكون لك وجود في بيئتك وفي نطاق حيك ووسط مجتمعك ذلك هو المطلب الملح والكبير بل يترتب عليه الخير العميم والأجر الجزيل من الله الكريم سبحانه، فالله سبحانه استخلف عباده في الأرض ليعمروها {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} هذه العمارة تشمل كل ما فيه نفع وفائدة للفرد والمجتمع؛ فالمسلم كالغيث، أينما حلّ نفع، ولا يرتكب ما يخالف هذه العمارة إلا من انتكست فطرته، فاستوى عنده العمار بالخراب، والإصلاح بالإفساد.
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في النّاس أموات
ذكره يتلجلج في المسامع: لله دره، ما أجمل صنائعه, وما أجلَّ مكارمه.
ردّت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
دينك ومجتمعك ووطنك بحاجة أن يكون لك فيه بصمة أو أثر حسن وبناء حقيقي ولو كان فيه مشقة أو تعب أو أذى فالدنيا لم تحل ولم تصف لأحد، والمؤمن يعمل ويكدح ويخلص النية ليكون له بذلك الأجر والمثوبة من الله جل جلاله.