د.نادية هناوي
شخّص رينيه ويليك أزمة لازمت الأدب المقارن منذ عام 1914 والسبب أن هذا الأدب منذ ولادته ما كان منفتحاً بل كان موجهاً وممنهجاً بشكل مخصوص لدراسة التأثر والتأثير. ولم ير ويليك حلاً لأزمة الأدب المقارن إلا بالمعرفة المنظمة التي تنظر إلى الأدب علماً وليس نظرية ( فالباحث ما عاد ذاك الإنسان الحكيم واسع الأفق ). ومما عمد إليه ويليك في هذا السبيل، قيامه بدراسة العلاقة المتبادلة بين أدبين بحثاً عن المصادر والتأثيرات رافضاً إبعاد النقد عن تاريخ الأدب. وأكد بوضوح كبير أن النقد الغربي إلى أربعينيات القرن الماضي كان ( في موقع الدفاع عن النفس فقد كتب الكثير لإعادة تأكيد حقوق النقد والنظرية الأدبية والتقليل من شأن السيرة والخلفية التاريخية) واستند ويليك في رأيه الشجاع هذا إلى كتاب اورباخ المعنون ( اللغة الأدبية والجمهور في العصور اللاتينية المتأخرة والعصور الوسطى) كما أضاف ويليك في مقالته ( مساهمة فيكو في النقد الأدبي) القول :( لقد بلغ من عمق الطريقة التاريخية التي نشعر بها وتصدر الأحكام على الأمور بمقتضاها أننا ما عدنا نعي وجودها فترانا نستمتع بفن الشعوب والحقب التاريخية المختلفة وشعرها وموسيقاها بنفس الدرجة من الاستعداد والتفهم ولم يعد تعدد الحقب والمدنيات يخيفنا. صحيح أن التفهم الذي يتكيف مع زوايا النظر المختلفة يخوننا بمجرد أن تدخل المصالح السياسية في الصورة إلا إن قدرتنا التاريخية على التكيف للأمور الأخرى وخاصة منها الأمور الجمالية لا يكاد يحدها حد ) وهذا صحيح فالأدب للإنسانية وليس تقوقعات قومية كما أنه شكل من أشكال التواصل بين البشر يلائم كل زمان ومكان. والباحث الموضوعي لا تخيفه التنقيبات عن تراكمات الماضي وعلاقاته الشائكة والمتشابكة.
ومن مؤاخذات ويليك للمؤرخين الأدبيين أنهم نظروا إلى التقييم كعملية تاريخية يمكن أن تدرس كما تدرس أية ظاهرة تاريخية، غير أن الأدب ليس عملية حتمية فلكل أديب إبداعه. وضرب ويليك مثلاً بما ذكره ارنست بوبرت كورتيوس في كتابه ( الأدب الأوربي والعصور الوسطى اللاتينية) عن تقفي آثار الكتّاب الكلاسيكيين فأديب بشهرة دانتي لا نستطيع أن نهمل تقييمه بحجة أن مؤرخي القرن الثامن عشر عدوه (مبالغاً وسخيفاً) أو نهمل مسرحية عطيل لأنهم حكموا عليها بالدموية. وهنا أشاد ويليك بنظرية غادامير المتمثلة بـ(صهر الآفاق في التداخل بين النصوص والمتلقي) كونها تساعد في فهم الخطابات الأدبية فهماً ضمنياً. أما رواية (دون كيشوت) فيمكن فهمها من خلال فهم الرومانسيات وقصص الفروسية وما ساد من أنماط وأساليب مختلفة في أدب العصور الخوالي.
وأكد ويليك أن القول إن الأدب بالأساس نشاط إنساني مشترك وعام، لا يعني أن الأدب لا تاريخ له وبذلك يكون ( من الحماقة إنكار اشتمال التاريخ الأدبي فأي شخص يتأمل حتى في القرون الغابرة لابد أن يلاحظ التغييرات في الأدب التي حصلت مع انهيار الإمبراطورية الرومانية قبل حلول المسيحية أو النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر).
إن مثل هذا الاهتمام بتاريخ الأدب والتوجه نحو علمنة الأدب هو ما أعطى ويليك مكانة مهمة بين نقاد مدرسة الأرسطيين الجدد، لا لأنه بحث عن الحقائق، بل لأنه أكد مزايا تجعل هذه المدرسة متفردة عن مدارس النقد الأوروبية وبخاصة الفرنسية التي وجدت أن من غير الممكن الاقتصار على الأدبية والتخلي عن العلمية. يقول ويليك إن:( رولان بارت الذي نظنه نبي البنيوية ينتهي في مقالة متأخرة ( العلم ضد الأدب) إلى نتيجة أن الكتابة هي قلب للخطاب العلمي مع أنها تزعم العودة إلى العالم والحقيقة. الكتابة متعة ومنح للمتعة).
ولا تعني المتعة أن الكتابة لا علم فيها ولا تاريخ، ولذلك سخط ويليك على النقد الأدبي الذي يهمل البحث في التاريخ عن الحقائق، ويتضح هذا الأمر - بحسب ويليك - في محدودية النقاد الجدد الذين يحصرون أنفسهم بالإنجليزية وقلما حاولوا مناقشة الأدب ( الأجنبي) وإذا حصل وناقشوه، فان اختيارهم ينحصر بنصوص واضحة قليلة جداً ( وما تزال هذه المحدودية قائمة إذا ما نظرنا إلى الثروة التي لا تنفد من الأدب العالمي التي تتحدث إلينا بألسنة كثيرة صارخة بأن لها الحق في أن تفسر ويحكم عليها) وليس هذا بالغريب على من كان سباقاً في تشخيص أزمة الأدب المقارن. هذا الأدب الذي سار الباحثون العرب على منهجه زمناً طويلاً وما يزالون يسيرون متبعين آراء المستشرقين وتحديداتهم الضيقة. وكان لويليك أن يكون أكثر صراحة ويحدد الآداب الأجنبية ويؤكد عالميتها لكن عقدة الغرب تبقى مستحكمة على عقلية الناقد الغربي شاء أم أبى.
وإذا كان العمل بالأدب المقارن متأزماً والتاريخ الأدبي محدوداً، فإن ويليك يفضل النقد الأسطوري بوصفه الأنسب لدراسة الأدب ولأنه أمريكي النشأة ( لا شك أن الحركة الأوسع في النقد الأمريكي منذ النقد الجديد هي حركة النقد الأسطوري التي تجلت قوتها في كتاب نورثروب فراي تشريح النقد 1957 ) وحدد أسباب تفضيل النقد الأسطوري بما يأتي:
1 ) أن النقد الأسطوري يسمح بالعودة إلى مضمون الأدب أي معناه الإنساني الشامل.
2 ) أن الأسطورة اسم لأي حبكة أو عمل من الأعمال الأدبية.
3 ) أن جميع الأساطير هي ذات قطبين الأول شخصي، إلهياً كان أو بشرياً والثاني طبيعي: نبتون والبحر وأبولو والشمس.
4 ) أن النقد الأسطوري (حليف حميم للوجودية على الأقل في أمريكا وقد أعجب بها فراي إعجاباً كبيراً.. ففراي متفائل ففي داخله ينبعث شيء ..ولا يستطيع المرء التأكد إلى أي مدى اعتنق النقاد الأمريكان تعاليم كيركغارد أو هيدجر أو سارتر.
5 ) أن «نقاد الوعي» الفرنسيين وجدوا أنصاراً لهم في الولايات المتحدة يهتمون بالوجودية وفينومينولوجيا هوسرل والتحليل النفسي لغاستون باشلار.
6 ) أن النقد الأسطوري إحياء للنقد الجديد المرتبط بالوعي والنشاط اللغوي لجماعة شيكاغو والغياب المفاجئ للنقد الماركسي.
وعلى الرغم مما تقدم، فإن ويليك لم يخفِ تحفظاته من النقد الأسطوري :( إن تحفظاتي النقدية لا تطمر إعجابي الحقيقي بإشراق النقد الأمريكي الحديث وذكائه وأصالته. أكون قد أنجزت مهمتي إن أنا أفلحت في عرض الاتجاهات والشخصيات المختلفة جداً في النقد الأمريكي الذي يشهد على الحياة الثقافية غير المحدودة للأمة),
إن وليم بليك في دفاعه عن ثلاثية العلم والأدب والتاريخ يكون قد وضع أساساً علمياً للمدرسة الأنجلوأمريكية وهي تعمل عليه منذ مفتتح القرن الواحد والعشرين مفيدة من محتمات العولمة ومقتضياتها الكوسموبوليتة وفي مقدمتها التداخل بين العلوم والآداب ودراسات الأقلمة التي توليها هذه المدرسة اهتماماً. وبها تتأكد عالمية الأدب وفاعلية هويته بعيداً عن مسائل المقارنة وقريباً من مسائل التاريخ وما بينهما العلم الوضعي.