رضا إبراهيم
تكملةً للمقال السابق نؤكِّد على أنه منذ بداية عملية عاصفة الحزم عام 2015م التي كانت تقودها السعودية، بالتعاون مع عدد من دول الخليج، واجهت المملكة العديد من المصاعب والتحديات، والتي تكمن خطورتها في الحاجة الضرورية لتطوير قدراتها الدفاعية وأنظمتها العسكرية، وقد كشفت عاصفة الحزم عن مدى ضخامة القدرات العسكرية التي عملت السعودية على بنائها خلال عقود مضت، وبذات الوقت اتجهت سياسة الرياض بالسنوات الأخيرة إلى كسر احتكارية سوق السلاح الغربي، من خلال شق قنوات جديدة وتحالفات إستراتيجية مع دول كبرى أخرى مثل الصين الشعبية.
وذلك تم العمل على تنفيذه عبر بناء قاعدة صناعية عسكرية، على غرار ما لدى الدول المتطورة، لأن المملكة العربية السعودية كانت تتوق دوماً إلى إنشاء صناعة دفاع وطيران قوية، ومن خلال خطط رؤية السعودية 2030 التي أعلنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تخطط البلاد للابتعاد عن اعتمادها على النفط، والعمل على خفض الإنفاق العسكري.
وقد حددت رؤية 2030 أن نصف الإنفاق الدفاعي سينتقل للشركات المحلية، وسيُحسِن قاعدتها الصناعية العسكرية من حجمها الحالي، المكون من سبع شركات ومركزين للأبحاث، كما أن النمو الصناعي الدفاعي المعزز سيعني بالنسبة للمملكة فرصة للاكتفاء الذاتي، وسيؤدي توطين الإنتاج الدفاعي أيضاً لفتح الأسواق أمام الاستثمارات المباشرة، والشراكات المهمة مع شركات الدفاع الرائدة، والمعلوم أن الهيئة العامة للصناعات العسكرية تم تأسيسها في شهر أغسطس عام 2017م بموجب قرار مجلس الوزراء السعودي.
وذلك القرار قد جسد تطلعات الحكومة السعودية بتطوير وتوطين قدراتها الوطنية في التصنيع العسكري، وتحويلها إلى ركيزة مهمة للاقتصاد السعودي، وذلك عبر توظيف الشباب السعودي وزيادة مساهمة القطاع في الاقتصاد الوطني، ويرجع بداية تاريخ المملكة في التصنيع العسكري إلى عام 1949م عندما أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - بإنشاء مصانع عسكرية عقب توقيع اتفاقيتين لتزويد المصانع بالأجهزة والمعدات والآلات اللازمة، ثم افتتح المرحوم الملك سعود بن عبد العزيز - طيب الله ثراه- عام 1953م أول مصنع للذخيرة في الخرج بمدينة الرياض، والذي قامت بتشييده إحدى الشركات الفرنسية.
وفي وقتها تحدث الملك سعود، حيث أكد في كلمته الافتتاحية بقوله (إن إنشاء هذا المصنع، ليس سوى الخطوة الأولى، وسيتم اتخاذ المزيد من الخطوات لرفع مستوى جيشنا، وتجنب ضرورة استيراد الأسلحة) وبنفس الفترة جرى افتتاح عدد من المنشآت والمصانع تضمنت إنتاج الأسلحة والقنابل والذخيرة، وفي وقتها أيضاً قامت المملكة بتطوير عدد من مشاريع الصيانة للطائرات والمحركات الإلكترونية المتطورة، ضمن صفقات الأسلحة الخاصة بها.
وفي عام 1986م جاءت مرحلة جديدة للصناعات العسكرية، تمثّلت في إصدار الموافقة الملكية لإنشاء المصانع الحربية للمؤسسة العامة للصناعات العسكرية، لتعمل باعتبارها كياناً مستقلاً بمجلس إدارة برئاسة وزير الدفاع، وسرعان ما أنتجت المنظمة عدداً من المنتجات العسكرية، وتعتبر شركة «الإلكترونيات المتقدمة» وهي شركة وطنية سعودية من أولى الشركات التي عملت على تطوير المعرفة المحلية الإستراتيجية، مثل تصنيع وصيانة وتوفير أنظمة إلكترونية متطورة لاستخدامها بمختلف القطاعات المدنية والعسكرية، وشملت منتجات هذه الشركة أجهزة الراديو العسكرية واللوحات الإلكترونية للدبابات ونظم المراقبة والتحكم عن بُعد والنظم البيئية.
ومن خلال برنامج (أوفيس) تم إنشاء شركة «السلام للطائرات»، والتي تعتبر إحدى أكبر شركات الصيانة الثقيلة بالعالم، إذ ساعدت الشركة بإعداد الطيران المدني السعودي لاستيعاب أساطيل الطائرات التابعة للخطوط الجوية السعودية كـ (بوينج وإيرباص)، كما أعدت شركة السلام الطيران العسكري السعودي لاستيعاب أسطول طائراته المتطورة طراز (تورنيدو - وإف 15)، بجانب استيعاب طائرات الإنذار المبكر السعودية طراز (أواكس) وطائرات التزوّد بالوقود جواً المعروفة بالصهاريج الجوية، نفس الأمر اتخذته شركة السلام لصيانة طائرات النقل الجوي طراز (سي 130).
وفي مارس عام 2016م تم افتتاح مصنعين للقذائف العسكرية ونظم الاتصالات العسكرية بمدينة (الخرج) جنوب شرق الرياض، بتكلفة بلغت نحو (240) مليون دولار، لإنتاج (300) مقذوف مدفعي أو (600) مقذوف هاون يومياً، ويضم المجمع (9) أبنية صناعية تم تخصيص كل منها لعملية إنتاجية كبيرة، وهو ينتج مختلف القذائف العسكرية، لتلبية احتياجات الجيش السعودي، بدءًا من القذائف ذات الأعيرة المتوسطة، مثل قنابل الهاون من الأعيرة (60 - 81 - 120) مم، مروراً بإنتاج قذائف المدفعية من الأعيرة (105 - 155) مم، انتهاءً بصنع نوعيات مختلفة من القذائف الثقيلة كقنابل الطائرات التي تتراوح أوزانها بين (500 - 2000) رطل، وفي يوم 25 ديسمبر نفس العام وفي داخل المؤسسة العامة للصناعات العسكرية بالرياض، جرى افتتاح مصنع نُظم الاتصالات العسكرية.
وفي مارس عام 2017م قامت (مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) بتوقيع اتفاقية شراكة من شركة «علوم الفضاء والتقنية الصينية»، التي تقوم بصنع طائرات من طراز (سي اتش/ 4) المسيّرة من دون طيار، لتفتتح الشركة الصينية مصنعاً لها بالسعودية، علماً بأن الطائرة الصينية المسيّرة لها قدرات ومزايا عديدة تتشابه تماماً في كل الشؤون والمهام التقنية مع قدرات الطائرة الأمريكية طراز (إن كيو 1 براديتور)، في الوقت الذي كشف فيه مسؤول كبير بشركة السلام أن الرياض تقوم حالياً بالاتجاه نحو صناعة الطائرات العسكرية وبشكل كامل داخل المملكة.
ومن جانبه كشف يحيى الغريبي الرئيس التنفيذي لشركة السلام في حوار صحفي، عن وجود خطوات حثيثة لصناعة الطائرات العسكرية بشكل كامل داخل المملكة، بما في ذلك كل قطع الغيار اللازمة، كما أشار الغريبي في كلمته أيضاً إلى أن الأعوام العشرة المقبلة، ستشهد بدء صناعة بعض الطائرات العسكرية السعودية من الألف إلى الياء.
بينما أكد رئيس الأركان العامة للجيش الكويتي الفريق الركن محمد الخضر في فبراير عام 2018م، على أن وزارة الدفاع تحرص على إنجاح المنظومة الخليجية ودعمها لكل الجهود الخليجية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتسريع عجلة التنمية، وأعرب الفريق الخضر عن سعادته بذلك المستوى المتطور الذي وصلت إليه الصناعات الدفاعية السعودية، مشيراً إلى أن هذا التطور الكبير الذي تشهده المملكة، لهو مبعث فخر واعتزاز لكل دول الخليج والعالم العربي كله.
وفي أحد تصريحاته الصحفية على هامش مشاركته في افتتاح معرض القوات المسلحة السعودية (إفد - 2018م) أكد الخضر على أن الصناعات الدفاعية السعودية تخطو خطوات متقدمة ستؤهلها للصدارة على المستوى الإقليمي، وستصل بها في القريب العاجل لأرقى المستويات الدولية، نتيجة لجهود الشركات الوطنية العملاقة لتوطين التقنيات الحديثة بالمجالات العسكرية، معرباً عن أمله في أن تشهد الدورة القادمة للمعرض المزيد من الصناعات الوطنية المتطورة.
وكل ما ورد في السطور السابقة دفع نفراً من أهل الذكر والخبراء إلى إبداء توقعاتهم بأن تصبح الشركات السعودية للصناعات الدفاعية، ضمن أكبر شركات الصناعات العسكرية في العالم، لأنها ستجمع بين أحدث التقنيات وأفضل الكفاءات في نفس الوقت، بهدف تطوير منتجات عسكرية وفق مواصفات عالمية، وكل ذلك يهدف في المقام الأول إلى تعزيز قدرات المملكة في هذا القطاع المهم والحيوي.
وقد حددت الشركات السعودية للصناعات العسكرية، مجالات عملها لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي وكسر الاحتكارية، والتي تتمثَّل في صناعة نُظم الرادارات والمستشعرات ونُظم الموجهات والاتصالات والقيادة والسيطرة، وصناعة الأسلحة والذخائر والصواريخ، وصناعة الأسلحة المتوسطة والثقيلة والمدفعيات والذخائر الموجهة، بجانب المكونات والأنظمة الهيكلية للدبابات والعربات والقيام بصيانتها، مع قطع الغيار ومعدات الدبابات والعربات القتالية والمدرعات، ومن خلال تشييد الشركات السعودية إستراتيجيتها على أساس قوي من الدراسات والبحوث العلمية المطولة، بجانب الاستفاضة والشمولية كي تصل إلى أفضل الممارسات، بجانب التنسيق الواسع مع الشركاء المحليين والدوليين.
ومن الواضح قيام الهيئة العامة للصناعات العسكرية في الآونة الأخيرة، بتعيين الموظفين والإدارة كي تمضي قدماً في اتفاقيات متوقفة منذ فترة طويلة، وكذلك لإعطاء الأولوية لسياسات التصنيع الجديدة بالمملكة، مثل قيام الهيئة بمراجعة المبادئ التوجيهية لمقتنيات وزارة الدفاع بحيث يجب على المقاولين الأجانب الالتزام باتفاقية توطين لما لا يقل عن (50) بالمائة من قيمة العقد وإعادة هيكلة برنامج التوازن الاقتصادي، بهدف تعزيز مشاركة الشركة المصنعة للمعدات الأصلية الدولية.
وذلك يعني أن السعودية لن تُقلل فقط مشترياتها العسكرية من الغرب، لكنها ستتحول أيضاً لتصدير السلاح للعالم العربي وآسيا وإفريقيا، ولسوف تتحول المملكة إلى لاعب منافس بسوق الأسلحة الأكثر ربحاً وتأثيراً، ومع إقامة صناعة محلية للأسلحة وتقليص النفقات السعودية على شراء الأسلحة من الخارج، سوف يقابله خلق عشرات الآلاف من الوظائف وفرص العمل على أراضيها، بجانب تحول السعودية لجهة تصدير للسلاح بالنسبة للدول المتحالفة معها على أقل تقدير، وتقليل اعتماد قادة الرياض على الخارج فيما يخص أمر التسلح.