عبدالرحمن الحبيب
يمر العالم بمرحلة تغيير حادة يصعب فيها الفهم، ففي الوقت الذي اعتقد به كثيرون أن الدول تتقارب والعالم الجيوسياسي انحسر مع العولمة ومع تطورات العالم الرقمي الذي أزاح حواجزَ واختصر مسافاتٍ، فإن ثمة صراعاتٍ جيوسياسية جديدة تشتعل مقابل قديمة تخمد، وثمة حماية اقتصادية تتنامى مقابل عولمة اقتصادية تنحسر «أعتقد أنه لا يزال صحيحًا أن الصراعات بين القوى الكبرى تنبع عادة من التنافسات الجيوسياسية ولكن نادرًا ما تنبع من المنافسة الاقتصادية» حسبما يقول الأكاديمي والمنظر السياسي روبرت كاجان. فهل دول العالم تتوجه للاندماج أم للاستقطاب أم تحولات لم تتضح بعد؟
يمكن أن نجمع شواهد تؤكد توجه العالم للتوحد والعكس صحيح.. يشبه ذلك ما يقوم به الإنترنت، فهو ذو تأثيرات مزدوجة تجمع النقيضين في آنٍ معاً.. يساهم في تذويب الهويات في بوتقة واحدة وبنفس الوقت يساعد على إيقاظ الهويات وتأجيج الفروقات بين الشعوب. وهو يساعد على تفتيت مؤسسات المجتمع إلى خلايا صغيرة وفي ذات الوقت يعمل على تسهيل تواصلها وسرعة دمجها في مؤسسات كبرى.. وهو يكسر طوق العزلة للأفراد والجماعات وأيضاً يساعد على انعزال الأفراد..
إذا كان هناك ما يجمع دول العالم وهناك ما يفرقها، فأيهما أرجح، العوامل المساعدة لتوحيد العالم أم عوامل الانقسام أم أن كليهما معاً يمتازان في بوتقة سائلة؟ العالم في حالة سيولة كما يطرح المفكر زيجمونت باومان بنظريته «الحداثة السائلة»، أي العالم في حالة إعادة تشكيل مستمرة بطرق مفاجئة وعالية المجازفة.. تترابط فيها خمسة تطورات:
أولها أن الدولة الوطنية لم تعد الهيكل الحامل الأساسي للمجتمع، فالحكومات الحالية صار لديها نفوذ أقل بكثير لتقرير الأحداث داخل وخارج البلد. الثاني، العولمة الرأسمالية التي فرخت الشركات متعددة الجنسية مسببة اللامركزية في سلطات البلدان؛ وإعادة هيكلة المؤسسات وتقليص عدد العاملين وكثرة التنقلات الوظيفية داخل البلد وبين البلدان أربك الاستقرار الاجتماعي. أما الثالث فهو التقنية الإلكترونية، فالإنترنت هيأ وسائل الاتصال لتدفق المعلومات. لم تعد مؤسسات الدولة متفوقة على الأفراد والجماعات في المعلومات، فصار لهؤلاء خياراتهم التلقائية العشوائية. الرابع هو أن المجتمعات أصبحت منشغلة بالمخاطر الأمنية.
وأخيراً، تنامي الهجرة بحدة أسهم في تغيرات الحياة اليومية للمجتمعات. المحصلة أن البنى الاجتماعية التقليدية تتفكك وهويات الأفراد تتفكك معها على المستوى الذاتي والوطني.
إذا كان باومان يطرح طرحاً «ما بعد حداثي» فإن المفكر رينه ريمون، مؤرخ التاريخ المعاصر لديه رؤية حداثية، يقول: «في كل مكان، هذه الثورة التقنية ولدت نفس النتائج، نفس الانقلابات الاجتماعية، الانتقال من مجتمع تقريباً كله زراعي ومنطوٍ على نفسه، مقسم إلى آلاف أو عشرات الآلاف من الخلايا القروية الصغيرة، إلى مجتمع يتصنَّع، يتحضّر ويتعصرن.. موضحاً أنه بهذا السياق فكل المجتمعات مرت بمشكلات متشابهة في القطيعة مع الكادرات التقليدية كإلغاء القبائلية مع نزاعات بين المدن والريف.. ويتساءل ألا تسمح هويته الظاهرة وتشابه التأثيرات، للمجتمعات بالتقارب وبفهم بعضها لبعض؟
هذه التشابهات بين مجتمعات العالم التي تبدأ من البنية التحتية (المادية التقنية) وتنتقل إلى البناء الاجتماعي والسلوكي والذوقي تقود في النهاية إلى البناء العلوي في النشاط البشري، وهو الفكر والسياسة. ثمة أرضية مشتركة من الأفكار والمفاهيم المشتركة بين شعوب العالم كحقوق الإنسان والحقوق المدنية وحق التعليم والعمل والرعاية الصحية..الخ. هذه العوامل المساعدة لتوحيد العالم، يدخل من ضمنها ثورة الاتصالات والإعلام التي اختصرت المسافات وقاربت مناطق العالم، وصارت الأخبار والمعلومات متشابهة ومتزامنة لكل البلدان، مع سهولة الترجمة الفورية بين اللغات، مما أدى إلى تشابه الاهتمامات والمواضيع.
وقس على ذلك العديد من العوامل كالسياحة والرياضة، فضلاً بطبيعة الحال عن المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وما يتبعها من منظمات عالمية صحية وغذائية وزراعية وغيرها.
بالمقابل، هناك عوامل تساعد على الانقسام مثلما نرى في صعود العصبيات القومية بما يشبه حالة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.. قوميات ترفض الآخر بل وقد ترفض جيرانها من القوميات الأخرى.. هناك من يطرح فكرة صراع الحضارات وأن العالم يتوجه نحو الانقسام والتفتت. ليس فقط هناك توجه للاستقطاب العالمي بل حتى الاستقطاب داخل بعض البلدان مثلما نرى في صعود الشعبوية أو في التوجه اليمني واليساري إلى مزيد من الاستقطاب وتأجيج الخلافات بين فئات المجتمع داخل الدولة.
هل هناك ولادة محتملة لحضارة واحدة للعالم كله، تعمل على توحيد تدريجي للعالم؟ كما تساءل المؤرّخ رينيه ريمون. أم على العكس سيكون هناك صراع حضارات تناحري بين عددٍ من الثقافات العالمية الكبرى، نظراً لسعي كلٍّ منها إلى فرض ذاتها وثقافتها على الأخرى كما يتوقع صومايل هنتغتون؟ هل سيؤدي عصر المعلومات وثورة الاتصالات واقتصاد المعرفة إلى ذوبان الدولة القومية كما يتوقع المفكر المستقبلي ألفن توفلر؟ وإذا كانت الدولة القومية ستتلاشى فهل سيحل محلها منظمات عالمية أو نظام أممي موحد؟
إذا كان السائل في الكأس يبدو في عين المراقب نصف فارغ وفي عين مراقب آخر نصف ملآن، فإن كأس العالم في حالة اهتزاز فيصعب على المراقب تقدير كمية السائل.. ربما لأن العالم في حالة سيولة..