د. عبدالحق عزوزي
من اعتاد زيارة أوروبا في شهر الصيف لا بد وأن يكون قد عانى أكثر من أي وقت مضى من درجات الحرارة المفرطة وغير المعتادة التي عمت جل دولها ومدنها، ولا بد أيضاً وأن يكون قد لاحظ تلك الشاحنات الطويلة والمتتالية التي تجوب الطرق السيارة والطرق الثانوية وهي تنقل الماء الصالح للشرب إلى المدن والقرى والجهات المتضررة.
وتواتر موجات الحر يجعل من تداعيات الاحتباس المناخي واقعاً ملموساً في العديد من دول العالم وله تداعيات مباشرة خصوصاً على الزراعة والملاحة النهرية والأنشطة الترفيهية المائية؛ كما أن إجمالي التساقطات ينقص بنسبة كبيرة جداً مقارنة بالمستويات الاعتيادية؛ وهذا النقص الشديد في التساقطات المسجل بعد فصول الربيع الجافة جداً والمصحوب بموجات حر شديد يؤدي لا محالة إلى تفاقم تجفف التربة.
وفي اليابان، أعلنت وكالة الأرصاد الجوية أنه خلال الشهر الماضي «كان متوسط درجات حرارة الصيف في البلد أعلى بفارق كبير في شمال البلاد وشرقها وغربها؛ وبلغ متوسط درجات الحرارة غير الاعتيادية في اليابان استناداً إلى ملاحظات في 15 موقعاً مختلفاً، +1.76 درجة مئوية وهو ما يتجاوز بكثير متوسط عام 2010 (+1.08 درجة مئوية) التي كانت الأعلى على الإطلاق» منذ بدء تسجيل الإحصاءات في العام 1898؛ ومن جهته، أفاد مكتب الأرصاد الجوية الأسترالي أن فصل الشتاء كان الأكثر دفئاً على الإطلاق، مسجلاً أحدث مستوى قياسي في سلسلة من الأرقام القياسية التي سُجلت في جميع أنحاء العالم مع اشتداد تأثير تغير المناخ؛ وتعود سجلات الطقس الأسترالية إلى العام 1910.
ولا يجب أن ننسى أن الاحترار المناخي الناجم عن نشاطات الإنسان اللامسؤولة، يزيد من وتيرة حرائق الغابات الشديدة بنسبة 25 في المائة في المتوسط مقارنة بعصر ما قبل الصناعة، وفق ما توصلت إليه دراسة نشرت في مجلة «نيتشر» في كاليفورنيا؛ وهاته الحرائق تمتد بطريقة مهولة وغير متحكم فيها، كما وقع منذ أسابيع في كندا واليونان وهاواي...
إن البشرية تدفع اليوم ثمن هذا الاحتباس الحراري وثمن الاستغلال اللاإنساني لثروات الأرض التي تؤدي إلى التلوث وأخواتها؛ وما هاته إلا البداية؛ فإذا كان هناك سبب كبير للأحداث التي ستؤثر تأثيراً عميقاً على جميع البشر في كل أصقاع الكرة الأرضية في العقود المقبلة، فسيكون هو التغير المناخي لا محالة، وستؤثر عواقب هذا التغير على كل أنحاء الكرة الأرضية ربما ليس في التوقيت ذاته أو بالشدة نفسها، ولكنها ستلحق بنا جميعاً في نهاية المطاف.
كما أن تقارير بعض المؤسسات الدولية الجادة تحذر من أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون من بين أكثر الأماكن على الأرض عرضة للخطر نتيجة لارتفاع منسوب مياه البحر، خاصة المناطق الساحلية المنخفضة. كما تتوقع أن يتعرض عشرات الملايين من البشر في المنطقة لضغط نقص المياه بحلول عام 2025.... وشح المياه نتيجة الجفاف سيؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد المياه الجوفية وإلى قلة المحاصيل الزراعية...
إن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الوقود الأحفوري وإزالة الغابات وغيرها من المصائب كلها من صنع وسياسة الإنسان الذي لا يتعظ للأسف الشديد؛ فهو لا ينظر إلا إلى تحقيق مصالحه الحالية دونما اكتراث إلى المستقبل المتوسط والبعيد ولا إلى الأجيال المقبلة التي ستعاني وجودياً من ضرر نشاطات وجشع أجداده...
ويشهد العالم زخماً عالمياً منقطع النظير تجاه التغير المناخي في العديد من المنتديات المتعددة الأطراف. وهذا الزخم لا رجعة فيه حيث لا تساهم فيه الحكومات فقط، بل يساهم فيه كذالك العلم والأعمال والعمل العالمي في مختلف الأصعدة. فمسؤولية الجميع اليوم تتمثل في اغتنام هذا الزخم بشكل جماعي للمضي قدماً نحو خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتعزيز جهود التكيف، والاستفادة ودعم خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهداف التنمية المستدامة. فكل القرارات الدولية في مجال المناخ هي قرارات مشروعة تنم عن مسؤوليات مشتركة وجماعية، والتمني الوحيد هو أن كبار الفاعلين الدوليين يقتنعون بمصير كوكبنا الذي خلقه الله أمناً وأماناً لنا، وهو ليس ملكاً لأحد، فوجب عليهم المحافظة عليه للأجيال المقبلة والقيام بكل ما يمكن المساهمة في إيقاف قاطرة التلويث والاحتباس الحراري، هذا هو التحدي الأكبر..