أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ذلك موضوعٌ تناوَلَه شمس الدِّينِ ابنُ كمال باشا [المتوفَّى سنة940هـ/1534م؛ وهو قاضٍ من العلماء بالحديث ورجاله، تركيُّ الأصل، مستعرب، عاش زمن السلطان سليم الأول، والسلطان سليمان القانوني؛ فنصَّبه السلطان سليمان قاضي الدولة العثمانة.. وقال عنه التاجي: (قلَّما يوجد فن من الفنون وليس لابن كمال باشا مصنفٌ فيه)، وله تصانيف كثيرة، منها (طبقات الفقهاء)، و(طبقات المجتهدين) و(مجموعة رسائل) تشتمل على 36 رسالة، ورسالة في (الكلمات العربية) نشرت في المجلد السابع من مجلة المقتبس، و(رسالة في الجبر والقدر)، و(إيضاح الإصلاح) في فقه الحنفية، و(تاريخ آل عثمان)، و(تغيير التنقيح) في أصول الفقه]، ولقد تناولْتُ هذا الموضوع وفرحْتُ به في كتابِي الكبير بعنوان: (الذَّخِيرة مِن المصنَّفاتِ الصَّغِيْرة)، ولطول العهد بِنَشْرِ كتابي هذا: كانَ يَصْعَبُ اِسْتِرْجاعِهِ إلَّا بِشِقِّ الأنفسِ؛ ولهذا أحْببتُ اسْتِرْجَاعَه على نَحْوِ كُتُبِ العصرِ الحديثِ الواضحة، وكان نَشْرُ هذا الكُتَيِّب في طبعتِه الأوْلَى عام 1403هجريَّاً؛ وهو من طبع مطابع الْفَرَزْدَقِ؛ وإليكم اسْتِفْتاحَ الْقِسْمَ الثاني من الكتاب: الحمدُ لله: أيْ الحمدُ لِوَلِيَّهِ؛ وهو الله سبحانه وتعالى، والصلاةُ والسلامُ على نبيه محمد، وعلى جميع أنبيائه وَرُسِلِه، وعلى جميع التابعين له بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى الملائِكَةِ البررةِ الكرام، وعلى من اِهْتَدَى بِهَدْيِهم، واعلموا أيَّها الأحبابُ أنَّ: النَّاظر في المرآة ربما كان متوجِّهاً إلى الصورة المرتسمة فيها، ومشتغلاً بها باحثاً عن أحوالها بحيث يغفل عن المرآة وصفائها وصقالتها، واستواء أجزائها، وغير ذلك من أحكامها، وقد جعل المرآة آلة لملاحظة تلك الصورة وصفائها بحيث ينظر بها فيها، ويتوصل منها إليها؛ فالمنظور المبصر بالحقيقة في هذه الحالة هو الصورة المنطبعة لا الآلة المتوسطة؛ إذ لا التفات إليها، ولذلك لا يتمكن حينئذٍ من تعرف حالها، وإجراء الحكم عليها.. وربما جعل المرآة ملحوظةٌ بذاتها [الصواب: بنفسها]، مقصودةٌ بالنظر فيها، غير ملتفت إلى ما عداها مما ينتقش فيها؛ فيعرف جودة صفائها ولطافة جوهرها، وذلك مما لا شك فيه، ويتضح به الفرق بين العلم بالوجه والعلم بالشيء من ذلك الوجه؛ فإنَّ البصيرة ربما توجَّهت إلى مفهوم قاصدة إليه، متمكنة من تعرف أحواله دون أحوال جزئياته، وربما جعلته آلةلملاحظة تلك الجزئيات، ومرآة لمشاهدتها إجمالاً؛ فيمكنها بذلك معرفة أحكامها مثال الأول قولنا: مفهوم الشيء يساوي مفهوم الممكن العام.. ومثال الثاني كل شيء فهو كذا؛ فإنَّ العقل قد لاحظ في الأول مفهوم الشيء، وجعله مقصوداً في نفسه، ولا يتمكن بهذه الملاحظة من إجراء حكم على جزئياته أصلاً، وفي الثاني قد جعل ذلك المفهوم آلة ومرآة لملاحظة الجزئيات؛ فيتمكَّن به من ملاحظة إحاطتها والحكم عليها؛ فالمعلوم في الأوَّل هو المفهوم الذي هو وجه لجزئياته، والمعلوم في الثاني هو الجزئيات إجمالاً من ذلك الوجه.. هكذا حقَّق المقال، ودع عنك ما قيل أو يقال، واستوضح به جواب ما يورد منها من الإشكال؛ وهو أنَّ الحاصل في الذهن على تقدير العلم بالوجه هو صورة الوجه، وعلى تقدير العلم بالشيء من ذلك الوجه إنْ كان الحاصل فيه صورته أيضاً؛ فالمعلوم هو الوجه، ولا فرق أصلاً وإنْ كان صورة أخرى لذلك الشيء؛ فلا يكون العلم به من ذلك الوجه، وإنْ كان الحاصل في الذهن صورتين، صورة الوجه وصورة أخرى للشيء؛ فالصورة الأولى علمٌ بالوجه، والثانية علمٌ بالشيء، لا من ذلك الوجه وإنْ قلت العلم بالشيء من ذلك الوجه عبارة عن المجموع قلنا: لزمك إمَّا توقف العلم بالشيء من وجه على العلم بحقيقته، وإمَّا تعريفه على العلم به من وجه آخر متسلسل؛ فيقل، أو يدور دوراً محالاً لا دور المعية.. وإنْ احتججت إلى أنه عبارة عن صورة الوجه شرط انضمامها إلى الصورة الأخرى للشيء قلنا: هذا علمٌ بالشيء مع العلم بالوجه؛ فهناك علمان ومعلومان، لا أنه علم بالشيء من ذلك الوجه، وأيضاً يستلزم أنْ لا يمكن علم الشيء من وجهٍ إلَّا منضمناً إلى علم بحقيقته، أو بوجهٍ آخر؛ فيستحيل أنْ يعلم الشيء بوجه واحد منفرداً عن علمٍ آخر به؛ وهو باطل اتفاقاً؛ بل ضرورة.
قال أبو عبد الرحمن: العلمُ لا خلاف فيه؛ لأنه نتائج حتمية بالتجرِبة وَفْق شروطها، وجِماعُها أمران: أولهما اكتشاف بعض سنن الله الكونية في المخلوقات، والتوسُّل بها إلى الاستشراف، واستنباط مُكوِّنات الصنع والاختراع من عناصر كيميائية بلغت عشرين ومئة عنصرٍ، وكان الحكماء القدماء لا يعرفون إلا (الأسطقسات): الماء، والنار، والهواء، والتراب.. وثانيهما الاختراع والصنع من قوانين الكون التي أذن الله سبحانه وتعالى باكتشافها.. والعلم لا يعرف إلا الموجود من المقتضي الباعِث، وفقدان المانع؛ فالمطر يُنبت الأرض بإذن الله، وتخرج نباتات المواسم في فصول العام.. والسحب الطويلة العريضة السوداء الدانية من الأرض مع خُلوِّ رياح تصرفها هي التي تصب الماء صبَّاً، وهي محقِّقةٌ في العلم الحديث؛ لأجل هذه الصفات (من وجود مُقتضِيات وتخلُّف موانع) غرقاً عارماً وفيضانات؛ لأنَّ استقراء الموجودات أفلس من وجود مانع، فنبوءاتهم بما سيحدث قطعية علمية عند العلماء.. ولكنهم يُفاجأون بحدوث موانع، وحدوث اقتضاءات أخرى تنفي ما كان عندهم علماً يقينياً؛ لأنه شيء حدث مُفاجأةً، ولم يجدوه استقراء فيما هو موجود، فتصب السحاب قليلاً، ثم تتقطع متوزعة في الآفاق، وقد تمطر في أماكن أخرى، ويجري بعضها بسرعة وهو خال أفرغ ماءه يسميه العرب جهاماً، وَعُرْف العامة أدقَّ، وهو (النفيض)؛ لأنه نفض ماءه؛ فانقلب يقين العلم إلى عدم علم؛ لحدوث المفاجئ من قدرة الله سبحانه، وهذا برهان كافٍ لقمع التجريبيين الذين حصروا العلم في المشاهَدة والخبرة التجريبية؛ لأن المعاكِس من المقتضيات والموانع غيب مفاجئ سابق لعلم البشر، ولا يملكون العلم به قبلاً مهما كان عندهم من مذخور التجرِبة.. إن واقع تحليلنا لمعرفتنا البشرية يُنتج أشياء عرفنا وجودها قبل أنْ نعرف كيفيتها، وثمة أشياء يُقِرُّ العلم الحديث بمعرفة وجودها ولا يزال يجهل كيفيتها.. وما يعلمه الإنسان بحسه بين مدٍّ وجزر خلال مرحلة العمر منذ رحمة المهد إلى وحشة اللحد؛ فهو يعلم في سن اليفاع ما لا يعلمه في سن الطفولة، ويعلم بالتعلم ما لا يعلمه في عهد الأمية، ويعلم كثيراً ويموت وهو لا يعلم أشياء أكثر؛ وإذن فالوجود ليس محصوراً في الحِسِّ البشري، وإنما في وسع الحِسِّ البشري بعض الموجودات.. والحِسّ فيما شاهده عِلْم بأن الموجودات مختلفة بشهادة العقل بملكاته، وربما عزَّ العلمُ بأحد الموجودات بنموذج محسوس؛ وإذن فماُيِّبتْ كيفيته عن الحِسِّ البشري ليس من الشرط أن يكون له في الموجود المحسوس ما يقارب صفته؛ ولهذا سهل على المؤمن أنْ يتصور في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإلى لقاء قادم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
**
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -