عبدالرحمن الحبيب
من الممكن أن يكون المرء أسود وهولنديًا، أو أن يكون من أصل مغربي وفرنسي بشكل لا لبس فيه. لكن هل من الممكن أن يكون غير أبيض وأن يعد نفسه «أوروبياً»؟ إذا كان الاتحاد الأوروبي خلَّص الهوية الأوروبية أو فكرة أوروبا من القومية المتطرفة داخل دوله، وقبلها تخلصت أوروبا في العصور الوسطى من التعصب الديني، فإن أوروبا تبدو في العصر الحديث مرتبطة بـ»البياض» بشكل ملتو يخفي التعصب، وأصبح اللون الأبيض أكثر أهمية بالنسبة للهوية الأوروبية.
هذه خلاصة كتاب «البياض الأوروبي». (Eurowhiteness)، لمؤلفه هانز كوندناني، الباحث بمركز أبحاث تشاتام هاوس في لندن، وهو بريطاني لأم هولندية وأب هندي. يرى كوندناني أن روايات التكامل الأوروبي لنبذ التعصب القومي تأخذ العبرة من دروس الحرب العالمية ومحرقة الهولوكوست، ولكن ليس من دروس تاريخها الاستعماري الوحشي؛ كاشفاً النقاب عن أنه رغم إنجازات الاتحاد الأوروبي إلا أنه من جانب آخر أسهم بفقدان الذاكرة الإمبراطورية الإمبريالية.
يقترح كوندناني أن «أوروبا» قد لا تكون ترياقاً لجراح التعصب القومي، بل ربما أوروبا معرضة لخطر التحول إلى القومية على مستوى الاتحاد الأوروبي هذه المرة. إن أولئك الذين ينظرون إلى أوروبا باعتبارها بناءً مدنياً تدعمه القوانين والمؤسسات والقيم، يمكنهم الترحيب بأي شخص باعتباره مواطناً، لكن في الآونة الأخيرة، اتجه البعض إلى التفكير في أوروبا من الناحية الحضارية أي التاريخ والثقافة والهوية، وبهذا المعنى ينتمي المرء إلى أوروبا، وبالتالي لا ينتمي الآخرون إليه أو الأوروبيون الجدد القادمون من أصول غير أوروبية. هذا له آثار مزعجة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في أوروبا ولا تبدو ملامحهم أوروبية بالمعنى التقليدي القديم. فهل من الممكن أن تؤدي ثمانية عقود من التكامل في الاتحاد الأوروبي إلى إثارة شكل من أشكال التعصب القبيح على مستوى القارة؟
المنافسة القومية بين دول أوروبا حولها الاتحاد الأوروبي إلى التاريخ، وأصبحت من الماضي، حتى الشعبويين واليمين المتشدد أصبحوا الآن يتراجعون حينما كان الخروج من الاتحاد الأوروبي في يوم من الأيام أولويتهم. وعلى نحو متزايد، تصوغ عناصر اليمين المتطرف خطاباتها بمصطلحات أوروبية، وإن لم تكن بالضرورة مؤيدة للاتحاد الأوروبي). أما الآن يريد الشعبويون أمثال مارين لوبان في فرنسا وفيكتور أوروبان في المجر أن يتحد الأوروبيون من أجل بناء أسوار أعلى بشكل جماعي لإبعاد الشرق أوسطيين والأفارقة وغيرهما من خارج أوروبا، كما يطرح الكتاب. لكن الأمر لا يقتصر عليهم فقط، فقد اختار التيار السائد من أنصار الاتحاد الأوروبي لغة ومفاهيم كانت على الهامش إلى حد كبير قبل عقد من الزمن، إذ يصف جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أوروبا بأنها «حديقة» تحتاج إلى درء «الغابة» خارج حدودها.
يقول كوندناني إن العنصر العرقي الثقافي للمشروع الأوروبي المعاصر كان مخفيًا لفترة من الوقت بسبب انقسام أوروبا أثناء الحرب الباردة. حتى وقت قريب، كانت أوروبا مؤمنة بشدة بنموذجها وتصدير نسختها، وفكرة الاتحاد الأوروبي باعتباره مساحة قابلة للتوسيع بشكل لا نهائي من الناحية النظرية للقيم المدنية المشتركة. لكن العقدين الأخيرين كانا بمثابة صحوة، فأزمة اليورو والأزمة البشعة للاجئين عام 2015، تلقت ثقتها ضربة قوية. وصارت ترى أوروبا نفسها محاطة بالتهديدات، سواء من الصين الصاعدة أو من الولايات المتحدة.
ما هو مصدر القلق؟ من ناحية، كلما زاد حديث السياسيين عن كون الأوروبيين اليوم نتاج حضارة تمتد إلى آلاف السنين، قل شعور الأقليات بأنها تنتمي إلى «أسلوب الحياة» هذا. على نطاق أوسع، يقول كوندناني إن التكامل المرحب به في القارة في العقود الأخيرة خلق نقطة عمياء ملحوظة، فهزيمة القومية لأغراض التكامل مع الاتحاد الأوروبي كانت تعني الخوض في ذروة الرعب الذي خلقته. وهكذا كانت الهولوكوست هي التي تُذكِّر أوروبا باعتبارها الشيء الوحيد الذي كان عليها «أن لا تسمح أبدًا بحدوثه مرة أخرى»، أدى إلى إخفاء دور الدول الأوروبية في الاستعمار الوحشي لمساحات شاسعة من الكرة الأرضية.
في جميع أنحاء العالم، كان على الدول البيضاء الغنية أن تتعامل مع خطاياها الأساسية. وفي أماكن مثل أستراليا وكندا، أصبحت المعاملة الجائرة للسكان الأصليين - منذ قرون مضت وحتى اليوم - محل نقاش ساخن. في أمريكا، تعني الانقسامات الناتجة عن العبودية أن مسائل العدالة العرقية تظل مركزية في خطابها السياسي. أما في أوروبا فقد اكتفى الساسة الأوروبيون باختيار محرقة الهولوكوست كخطيئة أساسية تتناسب مع طموحاتهم التكاملية، أما الخطايا الأخرى كالفظائع الاستعمارية فتم تجاهلها في الغالب.. إن إرث قرون من الأفعال الشريرة في الخارج بالكاد يظهر في المجال العام، باستثناء اعتذارات عرضية غير رسمية.
لا ينكر المؤلف أن للاتحاد الأوروبي إنجازات أهمها أنه أبعد الحروب بين دوله، لكن يرى أن أوروبا تحتاج إلى نقاشات وأطروحات تبتعد عن السرد السائد، وتفكك الثنائيات الزائفة، في المشروع الحضاري الطويل لأوروبا لمواجهة العلاقة بين أفكار أوروبا وأفكار العرق.. فالتعامل مع ما يعنيه أن تكون من أوروبا، وأن تكون أوروبياً، يظل يشكل أهمية بالغة، حتى ولو كان ذلك غير مريح.