كانت مفاجأة بديعة أن نقرأ هذه الشهادة الفاخرة في حق «جريدة الجزيرة اليومية» من رئيس رابطة المسلمين لعموم الهند، أثناء إجراء هذا الحوار معه.
إنه «السيد صادق علي شهاب» رئيس رابطة المسلمين لعموم الهند والسياسي المخضرم، وهو هندي من مواليد عام 1964، وهو الناشط الاجتماعي البارز الذي عُرف عنه حبه للسلام ونبذه للعنف والتعصب بكل أشكاله. التقيناه بمناسبة اختياره رئيساً لرابطة المسلمين لعموم الهند.
يتحدث ضيفنا في هذا الحوار عن أهمية تقوية المجتمع المسلم مع التركيز على تمكين المرأة وكيفية إدارة التنوع الثقافي والسياسي في مجتمع متعدد الثقافات والأعراق، كما يؤكد على تعزيز تعليم الشباب ومنعهم من قوى التحيز والتطرف والعنف. وسألناه أيضًا عن جريدة الجزيرة وعلاقته بها، فكان هذا اللقاء:
* تحتفظ مالابار الهندية بعلاقات خاصة من الاتصال الثقافي والسياسي مع الشرق الأوسط لقرون عدة. ما هو إحساسكم من منطلق الصلة القديمة بالعرب واليمن بالتحديد؟
- عندما قدم الحضارمة مهاجرين إلى هذه البلاد اتبعوا طريقًا وسطًا، فقد اندمجوا في المجتمع محتفظين بهويتهم الثقافية. وبذلك استطاعوا المواءمة بين أسلوب حياتهم وتراثهم العربي مع استيعاب الثقافة المحلية.
تتمتع ولاية كيرالا ولا سيما مالابار بماضٍ مميز من العلاقات الدافئة مع البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. وصل الناس من تلك الأجزاء واستقروا هنا؛ ليسوا تجارًا للمواد والبضائع فحسب، بل أيضًا حملة لمشاعل الإيمان. وظل ملوك الهند وعامة الناس يساندون التجار العرب الوافدين كلما واجهوا مشكلات في تجارتهم. وبالمقارنة فإن مالابار شهدت العديد من التجار الأوروبيين بين القرنين الخامس عشر والعشرين، لكن أحدًا منهم لم يترك بصمات ثقافية مثلما فعل العرب. كانت العلاقة الودية بين العرب والمحليين مضرب الأمثال. عندما طلب فاسكودا جاما من زامورين (ملك مالابار) طرد جميع التجار بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أجاب بأن العرب يعيشون هنا مواطنين لا أجانب.
هذه الروابط الحميمة بيننا وبين شعوب الشرق الأوسط لا تزال قائمة بطريقة أخرى. فالمهاجرون والمغتربون من مالابار إلى البلاد العربية يسهمون باستمرار في رفد هذه العلاقة التاريخية.
* من المعلوم أن الهند فيها مجتمع متنوع الثقافات والأديان، ولذلك تواجه تحديات مختلفة، فما هي رؤيتكم لمستقبل هذه البلاد؟
- نحن نعيش في بلد له تاريخ عريق في حياة المسلمين الذين تحرروا على أيدي أمراء (أولي أمر) وعلماء على مستويات مختلفة. لأسباب عديدة، يحتاج المجتمع المسلم في البلاد إلى عمل متضافر لتمكين المسلمين وترقية مستوياتهم. أقلية منهم هي التي تحظى بتعليم جيد وتترك الغالبية العظمى من دون أن تتاح لهم فرص تعليمية مناسبة لا من قبل الدولة ولا من خلال الجهود الذاتية. يمكن للأقليات في دولة ديمقراطية علمانية، أن توحد نفسها بموجب الدستور وتطالب بفرص أكبر من الدولة.
من الممكن تقوية مجتمعاتنا إذا توافرت لها شروط معينة، ولا شك أن التنمية الاجتماعية والسياسية لهي من أهم الأمور التي يحتاج المسلمون الهنود إلى التركيز عليها. وفي بيئة ديمقراطية يمكن لأقلية واثقة بنفسها أن تعيش في أفضل حال، إذا ما وضعت نفسها على طريق المستقبل والعمل المثابر.
إن رابطة المسلمين في الهند بوصفها إحدى الطوائف السياسية تتبنى سياسات قائمة على التعاون والثقة، على أساس التمسك بالدستور وتسيير الأمور بمقتضاه. إننا نرى التنمية الاجتماعية كلاً لا يتجزأ، فالتنمية الشاملة للدولة تقوم على تنمية المجتمع المحلي. لن تنهض أمة أو دولة ما لم تشمل النهضة كل جزءٍ من الشعب.
* التمكين الاجتماعي والسياسي مؤشر مهم لتطور كل مجتمع. لن يكون التعليم والاقتصاد والمشاركة السياسية ممكنة في ظل ظروف اجتماعية لا تضمن حياة سليمة وإعالة. هناك أدلة ملموسة للعلاقة بين مكونات الشعب ولا سيما العلاقة التعاونية مع أتباع الأديان والثقافات والعيش دون انقسامات، فما هي رؤيتكم نحو مزيد من الاندماج الاجتماعي للمسلمين في الهند؟
- التعليم هو المطلب الأساسي لجميع مؤشرات التنمية المطلوبة في السؤال. يساعد التعليم في تكوين مواطن متحضر حديث. سيكون الشخص المتعلم أكثر تسامحًا حتى لو حدث استفزاز من أي عناصر هامشية في المجتمع. يعرف كيف يتجنب الكراهية وعدم التسامح بالحب والتعاطف.
والتعليم أيضًا ترياق للحرمان الاقتصادي والسياسي. ستخلق التجارب الحياتية للشخص المتعلم رغبة داخلية في الازدهار في حياته الشخصية وكذلك الاجتماعية، وستؤدي في النهاية إلى التنمية الاقتصادية المستدامة.
سيكون لدى الشخص المتعلم ثقة أكبر نسبيًا وقوة إرادة لاستخدام حقوقه في مجتمع متعدد مثل حرية الكلام والتعبير وحرية الدين. ومن ثم ، فإن وضع خطة شاملة لتثقيف الجالية المسلمة وتعليمها في جميع أنحاء الهند خلال الخمسين عامًا القادمة سيكون العلاج الوحيد لجميع المخاوف المذكورة في السؤال.
* في النماذج الأوروبية المركزية الحديثة، يُنظر إلى الدين والسياسة بشكل أساسي من خلال عدسة ثنائية المنظار. بالنظر إلى تجاربك في العمل العام والعمل الديني، كيف يمكن النظر الموضوعي للصلة بين مؤسسات الدين والسياسة؟
- قبل الانتقال مباشرة إلى هذا السؤال، من الضروري فهم التطور التاريخي لمصطلح الثنائية في السياسة. تتم مناقشة الدين والسياسة دائمًا من منظور ثنائية القطاعين العام والخاص في الأفكار الغربية. عادة ما يتم تمييز الدين على أنه خاص، أي متعلق بالشؤون الشخصية، وتعتبر السياسة عامة، وهي مرتبطة بالدولة. تنشأ هذه السرديات الأوروبية المركزية من خلال المطالبة بتفوق أوروبا في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي من خلاله يحقق المجتمع التقدم والتنمية. يخلق هذا الجهاز المفاهيمي الغربي معتقدات خاطئة مفادها أن الدين يحاول دائمًا تحقيق الرفاهية الشخصية، وأن السياسة هي من أجل الرفاهية الاجتماعية. لكن هناك أوجه تكامل بين الدين والسياسة. دائمًا ما تتم مناقشة مؤسسات الدين والسياسة في الخطاب فيما يتعلق بالتفاعل بين الصراع والسلام. يمكنني القول بوصفي سياسيًا دينيًا إن للدين والسياسة دورًا مهمًا في التفاعل المجتمعي. يمكن أن يكون كلاهما سببًا للصراع أو مكونًا رئيسيًا في المساعدة على حل النزاع وبناء السلام المستدام. في بعض الأحيان، يكون اختلاف الدين هو سبب الصراع، ويمكن استخدام السياسة عنصرًا حاسمًا في حل هذا الصراع والعكس صحيح. كان هناك نقلة نوعية في هيكل النظام السياسي الهندي بعد هدم مسجد بابري. شخص ما استخدم الدين للصراع ولزيادة قوتهم في السياسة، وفي الوقت نفسه في ولاية كيرالا باستخدام الوعظ الديني دعا زعيم رابطة المسلمين إلى ضبط النفس للحفاظ على السلام. في الآونة الأخيرة اندلعت حرب في أوكرانيا لأسباب سياسية؛ في الوقت نفسه، سعى القادة السياسيون للحصول على مساعدة من الزعيم الديني ماربابا للمساعدة في حل الصراع والحفاظ على السلام. قد تختلف هذه التفاعلات من وقت لآخر، يمكن لزعيم ديني جيد أو زعيم سياسي جيد أن يحاول دائمًا تحقيق السلام بشأن الصراع.
* كان هناك انتقال للعمال من الهند إلى المنطقة العربية بعد الطفرة النفطية في الخليج في النصف الأخير من القرن التاسع عشر؛ ما هي آثار هذا الانتقال في المشهد الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي للمجتمع الهندي؟
- أثر التدفق الهائل للعمال من الهند، وخاصة من ولاية كيرالا إلى دول الخليج، ظاهر على الاقتصاد الهندي بشكل عام. أدى وصول التحويلات المالية الخليجية وإنفاقها إلى تغييرات كبيرة في اقتصاد ولاية كيرالا. حصلت أسر المهاجرين على أجور عليا. زاد الدخل والاستهلاك والاستحواذ على الأصول بشكل كبير بين الطبقة الوسطى. تغير مستوى معيشتهم كثيرًا نتيجة لذلك.
إن تطوير التعليم عامل حاسم في التنمية الشاملة لأي مجتمع؛ وقد أظهر المسلمون في مالابار نموًا مطردًا من حيث نمو التعليم الحديث وتطوير العمل التعليمي في ولاية كيرالا نتيجة مباشرة للهجرة إلى الخليج. زادت نسبة التحاق الطلاب المسلمين من منطقة مالابار بشكل ملحوظ في مؤسسات التعليم العالي مثل الكليات الطبية والجامعات المركزية والمعاهد التكنولوجية الدولية. بدأ الطلاب أيضًا في المشاركة في النشاط الطلابي في معاهدهم وجامعاتهم، مما أثر بشكل إيجابي على الأنشطة السياسية للأقليات في الهند. كما أصبحت المشاركة الاجتماعية للأقليات نشطة للغاية خلال هذا الوقت. بدأ المجتمع في إنشاء معاهد تعليمية ومنظمات خدمة اجتماعية، وشرع في برامج خيرية، وأنشطة رعاية أخرى. هكذا كان لهجرة الخليج من ولاية كيرالا تأثير إيجابي على مجتمعات الأقليات.
* اطلعتم بزيارة العديد من الدول الآسيوية والإفريقية والأوروبية في بعثات اجتماعية ودينية، فكيف تنظرون من خلال خبرتكم الميدانية وعلاقاتكم إلى مستقبل العلاقة بين مسلمي الهند وبين الهيئات الدينية في الشرق الأوسط والدول الإسلامية الأحرى، وهل توجد آفاق لمزيد من التبادلات الثقافية والاجتماعية وتعميق التعاون الاقتصادي بين المسلمين الهنود وهذه البلدان؟
- أعتقد أن هذا السؤال رائع. انتشر الإسلام في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أنحاء الهند، ولا سيما في ولاية كيرالا الجنوبية، وبدأ الهنود في إظهار المزيد من الاحترام لهذا الدين وأتباعه. كان إشراك المسلمين في المجالات الثقافية والاقتصادية للبلاد أمرًا بالغ الأهمية منذ البداية. وقد اضطلع المسلمون بدور رئيسي في حركة الاستقلال في البلاد. الهند اليوم موطن لثاني أكبر كتلة بشرية من المسلمين في العالم مع ارتفاع مضطرد في أعدادهم بشكل يومي، حسب إحصائيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. إن القوة البشرية للمسلمين الهنود تمنحهم أكبر ميزة، ووجودهم في الدول الأخرى موثق جيدًا. على الرغم من حقيقة أنني لست خبيرًا اقتصاديًا، إلا أنني أشعر أن المسلمين الهنود لديهم القدرة على القيام بأشياء عظيمة إذا تمكنوا من التعاون بشكل فعال مع المسلمين في الدول الأخرى. يمكن للهنود أن يقدموا بسهولة عددًا كافيًا من العمال المؤهلين الذين يجيدون لغاتهم بتكلفة معقولة. هناك العديد من رجال الأعمال المسلمين في البلاد، وهم في وضع جيد لتوسيع عملياتهم بسرعة إلى بلدان أخرى أيضًا. يلتزم الجزء الأكبر من السكان المسلمين في الهند بمدارس في الذكر والعمل الإسلامي تنأى عن التطرف، ومزاجهم العام معتدل يركز بشكل أكبر على التراث الاجتماعي متعدد الثقافات في البلاد. لذا يتمتع المسلمون الهنود بوضع جيد يمكنهم من العمل سفراء للسلام والعلاقات الثقافية الإيجابية في جميع أنحاء العالم يمثلون مواطنين لأمة ملتزمة بمفهوم «الوحدة في التنوع».
* جريدة «الجزيرة» تشتهر بقرائها ليس فقط في العالم العربي ولكن بين الشعوب الدول غير العربية أيضًا. كيف تعرفت على «الجزيرة» وقرائها؟
- تعرفت على «الجزيرة» لأول مرة من خلال أصدقائي في الدول العربية، كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي أن أعرف أن جريدة عربية أجنبية لديها مثل هؤلاء القراء في منطقة غير عربية، «اللغة المعقدة التي تستخدمها، ونطاق وحداثة المواضيع التي تناقشها، والتحليل النقدي الذي تحتويه «الجزيرة»، علاوة على ذلك المحيادة التي تحافظ عليه أثناء التعامل مع القضايا المثيرة للجدل».
أعتقد أن هذه الجريدة ساعدت طلاب الجامعات في الهند بوجه عام وطلاب المدارس الإسلامية بوجه خاص على تعلم الأدب العربي. وقد أصبح طلاب الجامعات الهندية على مدى سنوات مرافقة لصحيفة «الجزيرة» منسجمة معها وراغبة في صحبتها تأخذ من فكرها وثقافتها.
جريدة «الجزيرة» متوازنة أبعد ما تكون عن التفلسف الفارغ والتعقيدات الأيديولوجية والنظريات المثيرة الملتبسة، تدنو لقارئها لينال من منوعاتها ما يرضي ذوقه ويشبع نهمه ويجعله يتوق باستمرار لنيل فوائدها والارتواء من عذوبة ينابيعها الصافية، كما أنها ثابتة الموقف واضحة الهدف صريحة التوجيه، وتقوم بدور ريادي وقيادي في الصحافة العربية المعاصرة، لأنها تحمل في طياتها الكثير من الموضوعات المتعددة التي تربط بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. خطت «الجزيرة» لنفسها منذ نشأتها حتى اليوم أسلوبًا متميزًا في العرض والطرح والمناقشة، ولها وزن يضاهي الجرائد العريقة في العالم، كما أن لها السبق في نشر الرأي السديد، فالجزيرة تتميز بالجدوى والجودة والجدة والجدية فيما تنشر في كل ملفاتها، وهذا يُحسب لها ويقدّر.
**
- حاوره: د. علاء الدين كوكا نيجيري/ محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية وآدابها، كلية السنية العربية، كاليكوت - الهند