محمد سليمان العنقري
منتصف القرن الماضي ألَّف الكاتب الإيرلندي «صمويل بيكيت» مسرحية «في انتظار غودو»، تدور أحداثها حول رجلين يدعيان «فلاديمير واستراغون» ينتظران شخصًا يدعى «غودو»، وبنهاية المطاف لا يأتي. تذكِّرنا هذه الرواية بتقرير لشركة بريتش بتروليوم العالمية صدر عام 2020 م، حيث افترضت أن ذروة الطلب على النفط قد تحققت، وقدمت فيه ثلاثة سيناريوهات جميعها تتوقع تجاوز الطلب على النفط مستويات ما قبل وباء كورونا، وذلك بحلول العام 2025 قبل أن تبدأ في الانحدار بدرجات متفاوتة، مبينةً في أفضل السيناريوهات أن ذروة الطلب ستكون عند 101 مليون برميل. والغريب أننا في هذا العام يتوقع أن يصل الطلب إلى 102.2 مليون برميل، وقد يقارب 104 ملايين في العام الذي اعتبرته الشركة ذروة الطلب، أي بعد عامين من تاريخنا الحالي. إالى هنا قد يبدو الأمر طبيعياً ومجرد تقديرات من شركة وجهت كل استثماراتها للطاقة المتجددة حسب إعلانها سابقاً، وأنها لا تنوي أبدًا العودة لضخ إي استثمار بالطاقة الأحفورية ، لكنها فاجأت الجميع قبل أيام في نيودلهي في مؤتمر «بي20» بالقول «إنه ينبغي على دول العالم الاستثمار في إنتاج النفط والغاز لتجنب ارتفاعات حادة في أسعارهما مع تسريع التحول في مجال الطاقة لمواجهة انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري». ورغم أن حديث رئيسها بالمؤتمر كان فيه محاولة لإظهار التوازن بين التوجهات التي لطالما أصروا عليها سابقاً ببرامج تحول الطاقة حمايةً للمناخ، لكنه مرر ضرورة الاستثمار بالطاقة الأحفورية لأنه كان يرمي إلى أن ارتفاع الأسعار الحالي يتطلب هذا الاستثمار حتى لا يؤثر على النمو الاقتصادي بعد اندلاع حرب روسيا وأوكرانيا ريثما تنجح خطط تحول الطاقة، أي أنه إشارة لاستثمارات مؤقتة لا أكثر بالنفط والغاز فما يُفهم من هذا الحديث هو عدم الاكتراث بمصير استثمارات الدول بالنفط والغاز التي يطالبهم بضخها مستقبلاً، والمعروف أن هذه الاستثمارات أهدافها تتحقق على المدى البعيد نظراً لحجمها الضخم وأهمية هذه الأموال والاستثمارات للدول المنتجة، أي حلوا مشكلتنا الحالية حتى نتحول للطاقة المتجددة وبعدها لن نحتاج للطاقة منكم. فبدلاً من ذلك كان يفترض أن يعترف بأن تقديراتهم لمستقبل مزيج الطاقة كانت كلها خاطئة، وحرب روسيا وأوكرانيا كشفت الأهمية الكبيرة للنفط والغاز وأنهما سيبقيان صمام أمان الطاقة بالعالم لعقود طويلة والأكثر طلباً، بل إن اعقد القادم على أبعد تقدير سيصل الطلب على النفط إلى 110 ملايين برميل، أي أن ذروة الطلب التي تحدثت عن بريتش بتروليوم مجرد وهم وتقدير خاطئ على افتراض حسن النية، وبالمقابل فقد ذكر هيثم الغيص أمين عام أوبك في مقالة نشرت قبل فترة قريبة «أنَّ النفط سيستمر في تكوين جزء أساسي من البنية التحتية العالمية للطاقة لعقود مقبلة. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع التصريحات العديدة التي صدرت خلال العقود الماضية، والتي تشير إلى أن عصر النفط قد انتهى. في الواقع، يقترب الطلب على النفط من أعلى مستوياته على الإطلاق، حيث سيرتفع بما يقارب 5 ملايين برميل في اليوم في عامي 2023 و2024». ورأيه مستمد من تقارير أوبك حول مستقبل الطاقة عالمياً والتي أثبتت دقتها وواقعيتها بعكس وكالة الطاقة الدولية التي تبشر منذ فترة بتراجع الطلب على النفط والغاز وضرورة توجيه كل الاستثمارات للطاقات المتجددة غير مكترثين بأن الخلل الذي يحدثونه سيكون كارثياً على النمو العالمي عندما يزداد الطلب على الطاقة ولا يوجد ما يكفي منها، فالطاقة الآمنة هي بالنفط والغاز تحديداً بينما المتجددة فتتحكم بها عوامل الطقس بالإضافة لتكاليفها النرتفعة والحاجة لضخ قرابة 100 تريليون بالعالم على أقل تقدير بالعقدين القادمين للوصول لكفاية العالم منها بنسبة كبيرة، وهذا ملف أقل ما يقال عنه أنه شبه مستحيل لاعتبارات اقتصادية وتمويلية وحتى تصنيعية وتقنية وليس مضموناً نجاحه، فالأمان الحقيقي توفره الطاقة التقليدية النفط والغاز بل إنهم عادوا للفحم الحجري حالياً رغم أنه أكبر ملوث للبيئة في دليل على أن جل ما يصرحون به في الغرب لا يعدو أكثر من أوراق ذات بعد سياسي أكثر منه اقتصادي أو بيئي، فالهدف إرضاء الناخبين بخلاف التأثير على نمو اقتصاد الدول المنتجة التي جلها من الاقتصادات الناشئة عندما تتوقف أي دولة تقتنع بتقاريرهم عن ضخ استثمارات في ثرواتها الطبيعية، فإن دخلها سيقل ونموها سيضعف، لكن بالمحصلة كل توجهاتهم الأخيرة عادت عليهم بكارثة ارتفاع أسعار الغاز بسبعة أمثاله قبل أن يتراجع مؤخراً، بالإضافة لانكشاف هشاشة خطط تحول الطاقة وتحركهم في كل اتجاه لتوفير إمدادات الغاز والنفط لتعويض ما كانت تمدهم به روسيا بعد أن فرضوا عقوبات عليها، إلا أن ما فقدوه وقد يكون للأبد هي ميزة رخص الطاقة التي أعطت محفزاً كبيراً لصناعاتهم قبل العقوبات على روسيا، فالمؤشر الصناعي لدول الاتحاد الأروبي شهد انكماشاً في دليل على ضعف الطلب وارتفاع التكاليف التصنيعية والتمويلية، قد تكون بعض الدول المنتجة اضطرت لإنفاق مبالغ ضخمة على أبحاث ودراسات لتستكشف ما إذا كانت تقارير الشركات الغربية وكذلك وكالة الطاقة الدولية صحيحة حول ذروة الطلب على النفط ومستقبل الطاقة والتي سقطت ورقة التوت عنها وانكشف أنها غير دقيقة واقعياً، لكن من المهم للدول المنتجة أن تزيد في إنفاقها على مراكز الأبحاث والدراسات المرتبطة بالطاقة كما تفعل دول أوبك، فهذه الثروات الهائلة نعمة كبيرة ومصدر أمان للاقتصاد العالمي ولمستقبل شعوب تلك الدول. أما بريتش بتروليوم فعليهم انتظار «غودو» ذروة الطلب على النفط فلربما يأتي ولكن في الأحلام فقط.