أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
وإلى جانب كل تلك الكشوفات الفضائية، فقد بذلت في الوقت نفسه فئة أخرى طموحة من علماء الأحياء والطب والبيئة والفسيولوجيا وغيرهم جهوداً مثمرة لسبر أغوار ما هو أدق من الفضاء الكوني النسبوي بل وأصغر منه بكثير. فكشفت هذه الفئة التي يمثل جهدها تفاعلاً حقيقياً بين العلوم الغطاء بكل اقتدار عن فضاءات الجينوم البشري التي حُلَّت ألغازه بكفاءة عالية، ورُسمت خرائطه بدقة متناهية عاكسة الأصول الجينية للبشر التي وقِّعت مواضعها الأرضية خرائطياً من خلال دمج مبرمج بين نظم المعلومات الجغرافية ونظم التوقيعات المكانية.
ونظراً لتدفق الزخم العلمي الذي لا يتوقف، فقد أسهم علماء الكوانتم من الفيزيائيين والكيميائيين ونظرائهم من علوم أخرى عديدة هندسية وبيئية في تشييد وتنفيذ أضخم المصادمات الهادرونية العالية الطاقة والمعجلات النووية الخطية، والسيكلوترونية، والسنكروتونية، والبيزوترونية، والنيترونية التي تم بوساطتها الكشف عن أسرار ذرية غير مسبوقة شملت تحديداً ديناميكيات الذرة وأدق دقائقها النووية. كما تم الكشف في تلك المصادمات والمعجلات عن معلومات ذرية أخرى تتضمن خصائص العوائل النووية من الإلكترونات، والإلكترونات نيوترينو، والميونات، والميونات نيوترينو، والتاو، والتاو نيوترينو، ومكونات تلك العوائل من الكواركات، والمايزونات، والبايمايزونات، والجسيمات المضادة.
وتضمن ذلك الكشف أيضاً الفرميونات، والبوزونات، ومختلف جسيمات القوي النووية الأربع كالغليونات، والويكونات، والفوتونات، والجرافيتونات. واستمراراً لهذه الإنجازات الوثابة فقد تم في المصادم الهادروني لاحقاً على سبيل المثال لا الحصر وضع النقاط على الحروف بالنسبة لوظيفة بوزون هيجز، وعمق المجال الكتلي الذي عبرته المادة عند النشأة الأولى للكون بعد انفجاره الكبير. ويعتقد العلماء أن التعمق مستقبلاً في دراسات بوزون هيجز سوف يؤدي إلى مآلات مرتقبة دقيقة من أهمها حل لغز مبدأ عدم اليقين الكوني القابع عند اللوغاريتم العشري المرفوع للأس الذي يساوي سالب 35 جزءاً من الثانية الأولى بعد نشأة الكون. وسيشهد المستقبل القريب بإذن الله مآلات معرفية مدهشة أخرى منها تحديداً طفرات فيزيوكونية نوعية هائلة في مجال القفزات الكمومية، والخندقة الكمية، وانتقال المادة والطاقة معلوماتياً عن بعد، وربما سفر البشر عبر الزمن من خلال توظيف خاصية التشابك الكمومي على وجه الخصوص. وسوف تنجلي قريباً أزمة الإلكترون- الفوتون المتمثلة في ثنائية الجسيم -الموجة التي تجلت دونما أدنى شك في آلاف الفحوصات والتجارب المتعلقة بمرور الإلكترون أو الفوتون عبر ما يعرف عالمياً بتجربة الثقبين. كما تجلت تلك الثنائية ضمن العديد من التجارب التي حُرِّكت فيها الإلكترونات في مسارات طيفية كريستالية انشطارية لتحديد تأثير حاضر الكترونٍ واحد أو مجموعة من الإلكترونات والفوتونات على ماضي الكترون آخر منها أو مجموعة أخرى مناظرة لها ذرياً. ولقد لازم هذه الطفرات العلمية الثورية بطبيعة الحال تقدم متسارع الوتائر لمآلات عديدة هامة كصياغة النظريات الحديثة لفهم التجاذب الكوني والكهرومغناطيسي، ونمذجة النسبيتين الخاصة والعامة، ونظرية الكم التي من المؤمل أن يتبعها قريباً بإذن الله بزوغ شمس نظرية الأوتار الفائقة والحقل التنظيري الموحد لنظرية كل شيء. إضافة إلى ذلك فقد صاحب هذه الثورة التنظيرية الهائلة التي يشهدها هذا العصر تغيرٌ ملحوظٌ في منهجية صياغة النظريات وقراءتها وتأويلها والتحقق منها وخاصة عقب الجهد الفكري المرموق الذي سطره بوبر في كتابه الموسوم «منطق الكشف العلمي» الذي استبدلت بموجبه طرق البرهنة على صدق نظرية ما بمبدأ تكذيبها. ولا شك أن هذا التحول من أطر البرهنة على صدق النظرية إلى مبدأ تكذيبها يكسب النظريات التي ثبت صدقها في الأطر المرجعية العلميةالمعاصرة فرص البقاء وحرية التطبيق التي حرمت منها أمداً طويلاً نتيجة للقيود التي فرضها منظور الماضي ذو الأطر البرهانية البائسة البائدة. ويعتقد المنظِّرون والمشتغلون بالقضايا الآنفة الذكر أن تطور العلم الطبيعي حتماً سيقود إلى وضع تنظيري تقل فيه الموجودات والتفاعلات الأساسية، كما تقل القوانين وتكبر مجموعة التماثل. كما تصاغ النظريات وفقاً لهذا الوضع التنظيري في أنماط تفوق النظرية بساطة وإيجازاً، الأمر الذي يؤدي إلى تجرد بعض من تلك النظريات من أثر الزمان والمكان، واكتسابها صفتي العالمية والعمومية اللتين لا تتوفران لمعظم نظريات العلوم الطبيعية الحالية. وبناءً على ذلك ستسود المبادئ العامة والقوانين ذات الصيغ الرياضية التي تصف مجموعة من الحقائق محصلة من تجارب متشابهة، وبالتالي ستندرج هذه المبادئ والقوانين بطبيعة الحال تحت أطر نظريات عامة وأشمل أي تندرج تحت البنى الرياضية التي تعطي صيغة التفاعل الأساس الذي تنتج عنه القوانين التي تجرد النظرية من تأثير الزمكنة وتحررها من قيودها العتيدة.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن قوانين العلم الطبيعي لم تكن تبحث على مر الزمن عن ماهية الموجودات وكنه القوى كما هو الحال في العلوم الإنسانية وإنما كانت ولا زالت تبحث في المكونات الأولية للموجودات وفي القضايا التي تضبط عمل القوى وتحكم سلوكها كقانون بويل، وتشارلز، وقانون بقاء المادة، وقانون النسب الوزنية الثابتة، وقانون الفائض النسبي، وقوانين الحركة، وقوانين الثرموديناميكا. وبطبيعة الحال ينسحب ما ذكر أعلاه أيضاً بمستويات مختلفة أقل على بعض نظريات العلوم الإنسانية كنظرية الجاذبية للتجارة بالتجزئة، ونظرية التكامل، ونظرية الوزن الضائع، ونظرية تكاليف النقل، ونظرية تفاوت العمالة وتكاليف النقل.
كما ينسحب ما ذكر أعلاه على نظريات القطاع الاقتصادي ومراحل النمو، ونظريات التخطيط من القاعدة أو من القمة، ونظرية ماكينزي الحلقية في نمو المدن، والنظرية الكلاسيكية، ونظرية شومبيتر، والتنظير الكينزي المشتمل على نموذجي هارود ودومار. ويندرج ضمن هذا الزخم من النظريات الإنسانية أيضاً نظريات السلطة والقوة، ونظرية الصراع والتعصب العرقي، والنظرية التاريخانية الاجتماعية، ونظريات: فون ثنن، وفتر، وكريستالر، والتأثير المتبادل، والتعادل عند نقطة القطع. وقد ساند هذا الإبداع المعرفي التنظيري المدهش في علوم الطبيعة والإنسان أطراً مرجعية غنية بالنمذجة الرياضية الإحصائية، والعددية، والمحاكاة الحاسوبية، وآليات البرمجة التقنية الفضائية الجيوفيزي وكيميو رياضية. وتمخض عن هذه الثورة العلمية التنظيرية غير المسبوقة تطورٌ نوعيٌّ وكميٌّ آخر شمل مختلف حقول مجتمعات اقتصاديات المعرفة وآفاقها مؤصلاً معارف تلك المجتمعات ومطوراً مختلف مجالاتها التطبيقية كالطب، والأحياء، والصيدلة، والهندسة، والعمارة، ونظم الحوسبة، ونظم الإدارة والمحاسبة. كما جاس ذلك التطور خلال علوم أدبية وإنسانية متنوعة طائفاً عبر لغاتها وطفرة لسانياتها وعلوم الزمان والمكان كالتاريخ، والجغرافيا، والاجتماع، والإعلام، والصحافة، والدعاية، والإعلان، والمكتبات، والمعلومات.
كما تضمن هذا التطور طيفاً واسعاً لمجالات عديدة أخرى تقع خارج نطاق أبستمولوجيا الآداب وعلومها كالتربية، والإدارة، والسياحة والآثار، والحقوق، والسياسة، وعلوم استشراف المستقبل ومحاكاته وحوكمته إلكترونياً. ولعلي أعود لألتقي بكم قريباً بإذن الله على صفحة عدد جديد من صفحات جريدة الجزيرة الغراء لأستكمل معكم مناقشة هذا الموضوع الحيوي من زوايا أخرى من أهمها زاويتا المنهجية العلمية والنمذجة المرجعية لأبستمولوجيا التفاعل المعرفي بين العلوم.