د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
العنوان ليس ماركة عطرية حديثة تتسابق إليها الصبايا؛ ويركضْنَ نحوها ليمجدّن الصِبا، إنما هو عنوان ساقته لي فتنة الحكاية الحاضرة؛ حيث السيدة «مَنْشِم» بنت عامر امرأة أثيرة في مكة في عهود ما قبل الإسلام, فيما يُطلق عليها (الجاهلية)؛ كانت تلك المرأة تبيع العطر؛ فكانت القبائل إذا أرادت الحرب عرَّج المقاتلون عليها فتعطروا من عطرها الذي كانت تدقّه فيفوحُ شذاه، ومن المصادفة أو لعلها الخُرافة أن القتلى يكثرون في تلك المعارك، فاعتبروا أن ذلك العطر وسيلة لزيادة أوار الحروب وإشعالها، يقول شاعرهم ابن أبي سُلمى:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تداعوا ودقّوا بينهم عطر مَنْشِم
وإن كانت الخرافة أو المعتقد في تلك العصور هي القنوات الإعلامية التي جلبتْ الصيتْ لذلك العطر العجيب، حتى وإن صار مشؤوما فهم يمرون عليه ويرجون أن يمنحهم وميضاً أخضر يلجون بها إلى بوابات الحياة؛ لكنه كما تروي الحكاية ينقلهم إلى الفناء والهلاك، ويبدو أن لفحة هجير الصحراء في قائلة الصيف أفسدتْ أيضاً عبق ذلك العطر وجعلته شؤماً في عصور الجاهلية حتى أتانا اليقين.
ولقد أمضيتُ في تأمل قائمة طويلة من الأخيلة لأربط بين خرافة شؤم عطر السيدة مَنْشِم؛ وواقع اليوم وصانعات عطر مَنْشِم وصُنّاعه من أخوات مَنْشِم وإخوانها أيضاً؛ عندما يتربعون في مواقع ذوي الحل والربط، وقد نصبوا أنفسهم مثل كلمة السر التي لابد من المرور منها ووعيها قبل الولوج إلى أصحاب القرار خاصة في المؤسسات الخدمية الوسطى ذات العلاقة المباشرة بالجماهير؛ ودوائر العمل الصغيرة أيضاً, وفي المصطلح الإداري (مدير المكتب) ووفق صياغة عصر السيدة (مَنْشِم) هو الحاجب, فعندما لا يكون عند الحاجب شيء من مقومات المكان فإنه يشعل الحروب ويُذكي أوارها مثلما كان عطر (مَنْشم ) في الجاهلية, هناك فناء المقاتلين في الحرب؛ وهنا فناء الحقيقة وطمسها, وثلم حدود القرار, وتمرير الذم بما يشبه المدح, مع الاعتذار لأهل البلاغة.
فالسيدة (مَنْشِم) تتكرر اليوم في كثير من المواقع صغُرت أو كبُرت؛ والمؤلم عندما يكون موقعاً يجب أن يتحقق فيه التوازن، ويشترط فيه الحضور الإنساني المتماسك, والأمن الشخصي والعملي، وتتردد فيه مفردات الحرية والمساواة والإنصاف والعدالة.
والحاجب, عفواً (مدير المكتب) يحمل عدداً من المهام في واقع الرئيس المبعثَر في بعض الأحيان، والمنظم في أحيان أخرى؛ ومن وجهة نظري المتواضعة أن الضئيل في قدراته، والضعيف في شخصيته، وذا المنافذ المعرفية الشحيحة من ذلك الصنف؛ حتماً لا يغذي نبتة العمل، بل يقتل طموحات المؤسسة, ويسيء للمبدعين فيها، لأنه يرى أن كل استقطاب للأجدر هو بيع لوجوده, وفي بعض نطاقات العمل ذات الصلة الكبيرة بالمقدرة، والتفرد في الوصول إلى المستفيدين؛ حتماً ليس هناك شحٌّ في أن تجد المؤسسات من يمكن أن يوضع موضع المسؤولية في التنسيق بين الطالب والمطلوب؛ فإشكالية التواصل الذي يكرّسه اليقين؛ أن الشخص الذي يقوم بدور الوسيط أو المنسق، أو الموصّل يكون نقياً حكيماً شغوفاً بعمله ومهامه قادراً ماهراً في التعامل مع الموظفين في ذلك النطاق، وغيرهم من ذوي الحاجة من المراجعين.
ويذكر بعض ذوي السلطة أن المهام تحتشد لديهم, ولذلك فأبوابهم تصفق حنقاً وغصة, ولدى المراجعين فهم بليغ للغة الأبواب الحديثة التي تنفتح معها مفاصل الذاكرة لديهم, وتنغلق حين بؤس الوسيط أو الحاجب.
وقد يصبح اختراق مدير المكتب عند المراجع الضعيف الذي لا يملك إلا حقه عملية انتحار؛ وربما سمع ذلك المراجع اللاهث وراء الحق والحقيقة الفاصل المعتاد (راجعنا في وقت آخر حسب توجيه سعادته) وقد يكون سعادته من ذلك براء.
وفي كثير من الأحيان ينهدل ذلك المكان بفتنته بين أيدي من لا يعي طقوسه وواجباته, ويسلبونه وقاره وهيبته, ويخطفون قسراً جلّ السلطة من صاحب القرار في ذلك المحيط فيرفعون أقواماً ويضعون آخرين.
وإن سردنا أحاجي تلك المواقع المثيرة فما من سبيل لمبارزتها لا بعطر منشم ولا غيره, فلا نعلم متى يحاط ذلك المكان بالأهمية التي يجب أن تكون، فالطبقات العازلة تمنع وصول الماء الى البشرة.
رحم الله الشافعي حين قال وإن لم يكن لديه حاجب أو مدير مكتب:
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجاتُ