تنفتح السيميائية على أنماط التواصل غير اللغوية، كما في لغة الجسد التي لا تخلو منها المواقف ذات الطابع اللغوي أيضًا، ويتوزع حضورها بين الواقع، وما يعكس هذا الواقع في الأدب أو الفنون على اختلافها من مسرح وسينما ودراما وفن تشكيلي وكاريكاتير وغيرها. والابتسامة بوصفها جزءًا من لغة الجسد، ترتبط سيمائيتها بلغة غير منطوقة، وظاهرة شكلية خارجية تتبين في المواقف التواصلية، سواء أكان المرسل شخصًا واقعيًا، أم شخصية في عمل درامي أو سينمائي أو مسرحي، أو في لوحة تشكيلية.
ولما كانت الابتسامة في أصلها تعبيرًا عن مشاعر متوافقة معها على الأغلب، فإننا لا نعدم وجود ما يخالف ذلك؛ إذ قد تخفي ما تخفي، وقد تضمر ما لا يمكن الإعلان عنه من ألم أو حزن أو غضب، لكنها تركز على المتلقي الذي يكون قارئًا لهذه الابتسامة حسب حضورها، والسياقات التي تحكمها، وتشكلاتها المختلفة، وقد يوافق هذه الاحتمالات ولا يبتعد كثيرًا عن تأويلاتها، أو يخرج عنها ليكشف عن مناطق جديرة بالتأمل فيها.
هذا المستوى العام من القراءة، قد يرافقه مستويات أخرى تنطلق من خصوصية الابتسامة نفسها، ودرجتها، وكيفية تحويلها من أبعاد واقعية إلى أبعاد فنية، أو من بُعد فني إلى آخر، كما أن الابتسامة درجات، وبعضها أقرب إلى الضحك.
وهناك بعض النماذج لابتسامات نالت شهرة عالمية، ولا تأتي أهميتها من ارتباطها بشخصيات مشهورة فحسب، وإنما من كيفية تشكلها أو تحولها، أو شيوعها بين الناس بوصفها أيقونات مؤثرة، وذات دلالات مختلفة تنبع من طبيعة الابتسامة نفسها، ومن تحولها إلى نموذج عالمي لاحقًا، وقد يتناسى الأصل الذي نبعت منه، وتتجه الأنظار إلى تحولاتها وتشكلاتها الجديدة، وأنماطها المختلفة.
من بين هذه الأنماط، هناك ما يمكن أن نسميه (الابتسامة المتحولة) ومثالها ابتسامة البطل الرياضي الصيني (ياو مينج) التي كانت أقرب إلى الضحك، ورصدت في صورة فوتوغرافية التقطت له في موقف واقعي بوصفه ردة فعل على موقف ساخر تعرض له زميله الذي يرافقه في مؤتمر صحفي، لتنقل من صورتها الفوتوغرافية إلى صورة تشكيلية كاريكاتيرية متحولة عنها، ومطابقة لها تمامًا، ثم أصبحت فيما بعد ترافق رسوم الكاريكاتير، والكتابات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا يكون تلقي هذه الابتسامة في إطار تلقي تلك الكتابات الساخرة أيضًا؛ فبمجرد أن تقع العين على هذه الأيقونة، ينصرف الذهن مباشرة إلى توقع المكتوب، لتتحول هذه الابتسامة إلى أيقونة للسخرية.
وتأتي شخصية (الجوكر) ضمن نمط (الابتسامة المقنعة)، فهذه الشخصية رغم تنوع حضورها السينمائي، تبقى ذات دلالات ثابتة وشكل خارجي متشابه؛ وعليه تكون قراءة ابتسامتها انطلاقًا من هذه الدلالات المرتبطة بالشكل نفسه.
ورغم أن الجوكر يعاني من حالة الضحك دون سبب واضح ودون سيطرة منه عليها نتيجة مرض عصبي نفسي، وفي بعض المشاهد بدا وهو يحاول رسم الابتسامة على وجهه باستعمال يديه ليخفي الحزن أو الألم، إلا أن ما يعنينا هنا هي تلك الابتسامة الثابتة والمرسومة على الوجه في هيئة قناع؛ فقد تحول من مهرج يقدم عروضًا كوميدية ضاحكة إلى مجرم قاتل بهذه الابتسامة المزيفة، التي تأخذها من بعدها الإيجابي إلى أبعاد أخرى ليست كذلك، حين تحمل دلالات الرعب والجنون والخداع.
ومن بين الابتسامات اللافتة عالميًا، ابتسامة (الموناليزا) اللوحة التي رسمها دافنشي، وارتبطت في أحد جوانب شهرتها بهذه الابتسامة التي يرى البعض أنها تعبر عن الفرح والسعادة، بينما يفسرها آخرون على النقيض تمامًا حين يرونها معبرة عن الحزن أو الضجر، كما أنها تحتمل الوقوع بين حالتي الثبات التي تستلزمها هذه التشكيلات الفنية الثابتة، والحركة التي ظهرت بوصفها داعمة لخصوصية هذه الابتسامة وتفردها.
وأيًا كانت ردة الفعل حولها؛ فإن أهميتها ترتبط بالفترة الزمنية التي رسمت فيها اللوحة، حين كان يطغى الطابع الجدي على اللوحات التشكيلية أكثر، ولم يعمد الرسامون إلى توظيف الابتسامة كثيرًا في لوحاتهم الفنية. إضافة إلى غموض الابتسامة وما أثارته من دهشة في اختفائها عندما يركز الناظر على الوجه، بعيدًا عن التفسيرات الطبية المتعلقة بهذه الظاهرة، وبمستوى تركيز العين البشرية على الصورة ومحتوياتها.
وفي بعد آخر، تتجانس الابتسامة مع البعد الصامت للعروض المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، وترافق شخصيات كوميدية تعتمد مقومات كثيرة لضمان ردة فعل مناسبة للمتلقين، ويمكن أن تظهر هذه المقومات في الملابس والأحذية والعصا والحركات كما في شخصية مثل (مستر بين)، فقد تكون الابتسامة المرسومة على الوجه مرافقة لهذه الحركات، ومن المؤشرات المهمة الدالة على هذه الشخصية أيضًا.
وما يعنينا هنا هي الابتسامة من حيث كونها لغة صامتة ترافق لغة الجسد التي هي بدورها لغة صامتة أيضًا؛ لأنها تعتمد لغة تواصل غير منطوقة، وهي انعكاس لأفعال الشخصية نفسها، وردة فعلها إزاء الشخصيات الأخرى التي تشاركها المشاهد؛ إذ تغدو داعمة للطابع الكوميدي الماكر، وما يرافقه من حركات مثل: جحوظ العينين، تراقص الحاجبين، وحركات اليدين بوضعها على الرأس تارة وعلى الخصر تارة أخرى، ومط الشفتين وغيرها.
وفي أثر هذه الابتسامات على المتلقي، يمكن أن نفرق بين ابتسامة تصنع الابتسامة، وأخرى تصنع ردة فعل متفاوتة قد لا تكون الابتسامة منها؛ ففي كاريكاتير اللاعب الصيني، ليست الابتسامة هي التي تدفعنا لردة فعل مماثلة، وإنما ما يرافقها من كتابات ساخرة، كما أن ابتسامة الجوكر ثابتة لا توحي بأي تحولات في الأحاسيس والمشاعر تجاهها، إلا إذا تعمقنا في البعد الإنساني للشخصية نفسها. وفي الموناليزا لا نكاد نبتسم حين نشاهد اللوحة، أما مع شخصية (مستر بين) فالابتسامة رافد لحركات الجسد، التي هي في الأصل صانعة لردة الفعل ومن بينها الابتسامة، سواء أكانت من المشاركين في المشاهد، أو من المتابعين لها.
** **
- د. حصة المفرح