حامد أحمد الشريف
النقد، على عمومه، بابٌ من أبواب المعرفة المشرّعة الذي إن وُظِّف بشكلٍ جيّدٍ سنحصد من ورائه الخير الكثير، وليس - كما يعتقد البعض - هروبًا من العجز وقلّة المهارة، واختيار الطريق الأيسر من خلال نقد الحالات الإبداعيّة والتقليل من شأن أصحابها. صحيح أنّ هذا النمط يكشف لنا وجهًا سيّئًا من وجوه النقد إلّا أنّه ليس كلّ النقد، وبالتأكيد ليس النقد الإبداعيّ الذي نُطريه ونرغب فيه وأفردنا هذه المساحة للتحدُّث عنه، بل هو حيلة العاجز؛ فهؤلاء الذين تتّصف كتاباتهم النقديّة بهذه المواصفات السيّئة لا يمكن النظر إليهم على أنّهم نقّاد مبدعون، وإنّما هم أناس انتهجوا الحسد مسلكًا ينفِّسون من خلاله عن أضغانهم وسوء خلقهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله من سورة النساء الآية 54، قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فهم يستكثرون على المبدعين ما وهبهم الله من مهارة، ويذهبون باتّجاه انتقاص إبداعاتهم والتقليل من قَدْرهم وتتبُّع أخطائهم. وقد حدث ذلك بالفعل في كلّ العصور، ولنا شواهد على ذلك في ما تناقلته الأجيال عن مهاجمة الكفّار للمؤمنين، وحجّتهم في ذلك، النصحُ والإرشاد، بينما غرضهم الحقيقيّ هو ثنيُهم وإبعادهم عن الحقّ، والنيل منهم؛ كما حدث في قصّة فرعون مع قومه، عند ادّعائه النصح لهم، وانتقاده ما أتى به نبيّ الله موسى، حيث قال الله تعالى من سورة غافر الآية 26: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) ولقد كان هذا ديدن المجرمين على مرّ العصور، إذ إنّهم ينطلقون في الظاهر من النصيحة والحنوّ على أتباعهم، ويعمدون إلى انتقاد المخالفين لهم والتقليل من شأنهم، وربما تجريمهم؛ ولقد زخر القرآن الكريم بالآيات التي تتحدّث عن ذلك؛ ما يعني أنّ مثل هذا السلوك، يقينًا، لا يعَدُّ نقدًا وإنّما وسيلةً للتنفيس عن الأحقاد، ومحاولة للانتقام من المبدعين والتقليل من شأنهم. وبالتالي، ينبغي علينا الانتباه حتّى لا نذهب ضحيّة أمثال هؤلاء.
إنّ وجود هذه العيّنة السيّئة التي تتدثّر بثوب المحبّة والإخلاص والنصح الهادف، لا يجعلنا ننسى الوجه المشرق للنقد عندما يوضع في أيادٍ إبداعيّة تعرف قيمته، وتوليه الاهتمام الذي يستحقّه، وتنطلق منه لتصنع إبداعاتِها الشخصيّة؛ كحال حَكَم كرة القَدَم الذي نجده، إن كان سيّئًا في نفسه ولا يمتلك المهارات الإبداعيّة المطلوبة، يمتهن هذا العمل ويتّخذه وسيلةً للتكسُّب فقط، من دون أن يشعرَ بانتمائه إليه، فلا يدفعه شغفه به إلى تطوير أدواته وإيصاله إلى مرحلة الإبداع. إنّ حَكَمًا فاشلًا كهذا، يدخل في صراع وجوديّ مع اللّاعب المبدع، إذ يعتبره خصمًا له، ويحاول بكلّ ما أوتي من قوّة الانتقامَ منه وتصيُّدَ أخطائه، بل ودفْعه للخطأ لتوقيع العقوبة عليه. بينما نجد، على النقيض من ذلك، حَكَمًا مبدعًا ينزل إلى ساحة اللّعب وهو يعرف جيّدًا قيمة صفّارته، ويمتلك الحسّ القياديّ، فيكون دائم التبسّم في وجه اللّاعبين، ويترفّع عن انتقادهم وتصيُّد أخطائهم، ويجتهد للحفاظ على استمرار اللّعب واستمتاع الجميع به، فلا يتدخّل إلّا عند الضرورة، محقّقًا بذلك إبداعه الشخصيّ، أسوةً باللّاعب؛ فالإبداع عمليّة تكامليّة لا تَفاضُلَ بين أركانها.
الشاهد هنا، أنّ هناك وجهًا مشرقًا للنقد، يهدف للاستمتاع بجمال نِتاج المبدعين، والتغنّي به، وتوظيفه لاستفادة الجميع منه، والاجتهاد للوصول إلى أدقّ تفاصيله، وبيانه، حتّى تعمّ الفائدة ولا يكون حكرًا على أناس دون غيرهم. وهذا هو الدور الحقيقيّ الذي يلعبه الناقد المبدع.
تحضرني هنا قصّة عشتها شخصيًّا، حين وجّه إليّ أحد الإخوة نصيحة، مفادها أن أنشغلَ بزيادة تحصيلي من الأعمال الإبداعيّة، كالرواية والقصّة، منكرًا عليّ تضييع وقتي وجهدي في قراءة قصص الآخرين ورواياتهم والكتابة عنها، وأنا - برأيه - غيرُ معنيٍّ بها، ولا طائل أجنيه من ورائها، في حين يستفيد منها أصحاب الكتب والقصص التي أكتب عنها. كما سبق أن وجّه إليّ أحد النقّاد من الأصدقاء نصيحةً مماثلة، وبدا أنّه يشفق عليّ بالفعل، أو يخشى أن تضيعَ بوصلتي، وتبعدني الكتابة النقديّة عن السّرد (روايةً وقصّة).
أعتبر هذه النصائح غايةً في الأهميّة، وبما أنّها تتعلّق مباشرةً بالكتابة الإبداعيّة، ارتأيت الحديث عنها بالتفصيل، وبما تستحقّه من اهتمام؛ فالكاتب الناقد، أو اشتغال كاتب السرد بالنقد - في ظنّي - لا يُعَدُّ ترفًا، ولا تجاوزًا، ولا هدرًا للوقت والجهد، بل هو من صميم احتياجات الكاتب، ومن العوامل التي تشكّل قيمته الفنّيّة، وتُطوِّر أدواته، وتدفعه خطواتٍ إلى الأمام في أعماله المستقبليّة. لذلك، أسميته النقد الكتابيّ، وأعني بذلك أنّ النقد إن مورس بالطريقة الصحيحة من كلّ النواحي، فإنّه يُعتبَر من أهمّ عوامل تغذية مهارتِنا الكتابيّة التي توصلنا إلى الكتابة الإبداعيّة المأمولة، بشرط أن نمارسَها ونحن مدركون هذه الحقيقة، وقادرون أن ننهض بكلّ متطلَّباتها؛ فصناعة الإبداع، كما هو معلوم، لا تأتي بدون خطواتٍ مدروسة نخطوها ونحن عارفين بكلّ تفاصيلها ومتوقّعين نتائجها.
بالطبع، يتطلّب تحقيقُ ذلك الكثير من الجهد، من قراءة وفهم لأساسيّات السرد وفنونه وتطوّره، وتنمية الذائقة السرديّة باعتماد القراءة النخبويّة لكتّاب كبار ممّن يمثّلون هذه الأسس ويوظّفونها في كتاباتهم. فالقراءة الكتابيّة والنقد الكتابيّ وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن ممارسة أيٍّ منهما بمعزل عن الأخرى، بل إنّهما مكمِّلان لبعضهما؛ وعلى أيّ حال، فإنّ كلّ ذلك سيعود بالنفع الكبير على الكاتب السرديّ؛ لذا، يستحقّ الاشتغال عليه وجعله أولويّة، وتجاهل ما يقال عن كونه مضيعة للوقت. فالنقد الهادف - يقينًا - ليس كذلك، بل هو عمليّة مزدوجة يستفيد منها الناقد كما صاحب المهارة أو الساعي لتعلُّمها، وبالدرجة نفسها؛ فكلّ ما يقوم به الناقد المبدع من تحليلٍ للمهارة ومحاولة الوقوف على سلبيّاتها وإيجابيّاتها، وسبر أغوارها، إنّما يعود عليه هو بالخير الوفير، ويُسهم في تطوير أدواته، وقد تفوق استفادته، أحيانًا، استفادةَ صاحب العمل، ولن تقف حائلًا دون إتيان الناقد المبدع بإبداعات مشابهة لما قام بتحليله ودراسته، إلّا غياب المهارة نفسها أو بعض اشتراطاتها. فكما هو معلوم، إنّ الدراسات النقديّة تختلف عن الكتابة الإبداعيّة في احتياجاتها المعرفيّة، كما في المواصفات الشخصيّة التي يتمتّع بها الناقد للنهوض بهذا العمل. في وقت نجد فيه أنّ الكتابة الإبداعيّة أيضًا لها خصوصيّتها وتفرّدها وأدواتُها؛ ما يعني أنّ الإبداع في إحداهما لا يعني بالضرورة الإبداع في كليهما، ولكن، في حال كان باستطاعة الكاتب الإبداع فيهما معًا، فسيكون ذلك غاية المنى، علمًا أنّ هذا الأمر نادر الحصول، ويعتبر من الحالات المتفرّدة؛ لذا، يستحقّ، متى وُجد، عنايتنا به وتنميته بدل إهماله والانصراف عنه أو تخطئة صاحبه.
إنّ النقد الكتابيّ الذي نحن بصدد الحديث عنه، إنّما المقصود به توظيف النقد الأدبّي لتجويد كتاباتنا، لما له من أثرٍ حقيقيّ على إبداعاتنا الكتابيّة. ووفق هذا الفهم الصحيح، يظهر أنّ الغرض منه أبعد ما يكون عن مزاحمة النقّاد ومنافستهم، أو ما يشاع عنه أنّه حيلة يتّخذها الكاتب لتمرير بضاعة ما والترويج لها. هذه الفرية يمكن دحضها بسهولة، فتأثير النقد الزائف السلبيّ يفوق بكثير أثره الإيجابيّ، ويكفي قراءة عمل واحد قادتنا إليه قراءة كاذبة أو غير جيّدة، لنطوي صفحة الناقد والكاتب، ويفقدان بذلك تأثيرهما. ففي مجال الأدب الإبداعي الحقيقي لا يمكن تمرير الأعمال السيّئة، وإن طفت على السطح مؤقّتًا، إذ لا تلبث أن تعود إلى القاع مجدّدًا ولا تخرج منه أبدًا، والشواهد أكبر من حصرها على مثل هذه الفقاعات التي أرادت لها بعض الأقلام الزائفة أن تسود وهي تُعلي من شأنها كذبًا وزورًا أو جهلًا، فكان أن تهاوت تلك المصنّفات وانزوت في الظلّ بعيدًا عن الضوء، ونسيها الناس؛ فلم يجنِ مَن أرخصَ قلمه إلّا الخزي والعار وعدم الاعتداد برأيه، وبقي الكتاب محتفظًا بقيمته الحقيقيّة التي يصعب تزويرها. ولعلّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الميدان الإبداعي يتّسع للجميع ولا يتقاتل فيه غير الفشلة. والمبدعون بحقّ يعلمون أنّ إبداع سواهم لن ينال من إبداعهم. فما الذي يمنع الناقد، إن وَجَد في نفسه القدرة على الكتابة الإبداعيّة، بعد تمرّسه في النقد وفهمه الحقيقيّ لأبعاده ومنطلقاته، أن يخوض غمار التجربة، وربّما يتفوّق فيها؟ أو العكس، ما المشكلة إن وجد الكاتب أنّ باستطاعته النهوض بدور الناقد؟
الشاهد هنا، أنّ القدرة على النهوض بهذَيْن الدورَيْن إنّما هي هبة إلهيّة ذات قيمة كبيرة لا ينبغي التفريط فيها. ولا يعَدّ النهوض بأيٍّ منها ترفًا لمن يقدر عليها، وإنّما واجبًا إبداعيًّا لا غنى عنه، وبابًا من أبواب تطوير أدوات السارد والناقد على حدٍّ سواء، إذ إنّهما يستطيعان من خلاله التعرُّف على نماذج من الإبداع السرديّ والنقديّ المختلف، والاطّلاع على تجارب كتابيّة أو نقديّة رائدة في هذا المجال؛ فالكاتب الناقد يسبر أغوار النصوص التي يقف عليها ويكشف أسرارها، ويفكِّكها بالطريقة التي تجعله يستطيع استثمار إيجابيّاتها وتوظيفها في كتاباته المستقبليّة، بالابتعاد عن بعض السلبيّات وتلافيها في أعماله؛ فهو، أثناء نهوضه بهذا الدور النقديّ، يطوّر أدواته الإبداعيّة من خلال انخراطه في ورشة عمل تعتمد على أفضل منهجيّة للتعلُّم، وفق مخروط «إدجار ديل» في الوسائل التعليميّة؛ وأعني بذلك، ممارسة الخبرات بطريقة مباشرة، وعدم تلقّيها من الوسطاء، وبالتالي قناعة الكاتب الناقد بال مادّة العلميّة، وترسيخها في عقله ووجدانه بحيث يسهل عليه تطبيقها. وهو الأمر الذي يتكرّر بالدرجة نفسها من الأهمّيّة، عندما يقوم الناقد بممارسة الكتابة، ويطّلع على الصعوبات الكبيرة التي يعاني منها الكاتب خلال سعيه للتغلُّب عليها. ولا أظنّني أبالغ إن قلت، إنّ من يمتلك القدرة على الجمع بين هذين المجالين الإبداعيّين ستكون له الغلبة في كليهما، وسيكون مشهودًا لتفوّقه.
الآن، وقد علمنا خاصّيّة الجمع الإبداعيّ بين النقد والكتابة، دعونا نتساءل - إن كان للأمر هذه الأهمّيّة بالفعل - لمَ لم ينهض بالنقد غير القلّة القليلة من الساردين على مدار التاريخ السرديّ؟ ولمَ لم يجعلوه أولويّة لهم، ويسعون بجدٍّ لتعلّمه وممارسته؟ وإن كانت المزاوجة بهذه الأهميّة، كيف نجح أصحاب الإبداعات الفرديّة التخصّصية ووصلوا إلى هذه المراتب المتقدّمة؟
للإجابة على كلّ هذه التساؤلات علينا أن ندرك أوّلًا أنّ النقد - كما أسلفنا - هو بحدّ ذاته إبداع، وله أدواته المعرفيّة والمهاريّة، وبعض المواصفات القياديّة الشخصيّة التي قد لا يُلِمّ بها الساردون، ولا تتأثّر كتاباتهم بفقدها؛ أو أنّ درجة تأثير بعض الاشتراطات الإبداعيّة تختلف وفقًا للمهارة. فمع إيماننا بأهميّة الوظائف العقليّة العليا، إلّا أنّ تأثيرها على السارد أقلّ بكثير من تأثيرها على الناقد؛ فقد يصل الكاتب إلى درجةٍ متقدّمة من الإبداع الكتابيّ رغم محدوديّة قدراته العقليّة العليا، بينما نجد الناقد الحقيقيّ لا يمكنه التفوُّق والإبداع إن لم تكن هذه القدرات هي أكثر ما يميّزه، ويكون حضورها في أعلى المستويات لاحتياجه الكبير إليها وعدم استغنائه مطلقًا عنها. نجد أيضًا أنّ الكاتب لا يحتاج بعض المعارف النقديّة بكلّ تفصيلاتها، غاية ما يحتاجه منها هو عناوينها العريضة التي تسمح له بتجويد كتاباته. بينما الناقد يحتاجها بكاملها، بل وينبغي عليه مطاردة مستجدّاتها كما يفعل الطبيب في تتبّعه للمرض وطُرُق الشفاء منه. فالمعلومات النقديّة المتغيّرة تعَدّ حاجةً ملحّة للناقد، بينما لا تكون بهذه الأهمّيّة للكاتب. يمكن القياس على ذلك في كلّ الاشتراطات الإبداعيّة التي يصعب الإبداع بدونها، ولكنّ درجة أهميّتها تختلف حسب المهارة المستهدَفة.
بعدما فهمنا ذلك، يمكننا الإجابة على الاستفهام الإنكاريّ السابق بالقول: إنّ بعض الساردين المميّزين لا يمكنهم ممارسة الدور نفسه في النقد، وعليهم تطوير أدواتهم الكتابيّة بالطرق الأخرى المتاحة، فالبدائل أكبر من حصرها والتحدُّث عنها، خلافَ أنّ بعض الساردين تستهويهم الكتابة بشكلٍ جنونيّ، وتمثّل بالنسبة لهم الشغف الحقيقي الذي لا يوازيه أيُّ شغفٍ آخر، فلا يجدون معها الوقت لممارسة النقد رغم استطاعتهم، وربّما تفوّقهم فيه. ويعتمد صقل مهارتهم على تعدّد تجاربهم وتنوّعها وديمومتها، وهو مجال كبير لتطوير المهارة، يوازي، بل يتفوّق على تناوب الأدوار الذي نحن بصدد الحديث عنه. وفي كلّ الأحوال، إنّ إبداع بعض النقّاد وابتعادهم عن الكتابة الإبداعيّة، أو إبداع بعض الكتّاب وابتعادهم عن النقد، لا يجعلنا نشكِّك في هذه المنهجيّة الأصيلة، وإنّما يذهب بنا باتّجاه معرفة مدى صعوبتها وعدم قدرة الجميع عليها، رغم قيمتها وحاجة المبدعين في النقد والكتابة إليها.
من الأمور التي تُطرح كاستفهامات أيضًا، قولُ البعض: إنّ القراءة النخبويّة تفي بالغرض، وتُكسب القارئ المهارات المطلوبة، ولا حاجة به لهذه الممارسة المتعِبة التي قد تستغرق وقته وجهده، وتَصرفه بالفعل عن إبداعاته. ولهؤلاء نقول: إنّ النقد الكتابيّ إنّما يرتكز بالفعل على القراءة النخبويّة التي سبق وتحدثنا عنها، ولكنّ القارئ، مهما كانت درجة تركيزه، لن يستطيع تحقيق الفائدة القصوى من الكتاب طالما كان هدفه القراءة وحدها ولم يكن معنيًّا بتحليل النصوص، وتفكيكها، ودراستها، والوقوف على كيفيّة بنائها، وتبيُّن كلّ تفصيلاتها النقديّة التي تجعلنا نعيدها لأصلها ونعرف مدى التزامها بالأسس والقواعد أو تجاوزها، وتأثير ذلك على قيمتها الإبداعيّة؛ خلافَ وقوفنا على بعض الِهنات التي يمكن تجاوزها أو مرور الكاتب على نواحٍ جماليّة لم يوفها حقّها.
كلّ ذلك، إن لم يدوّن ويتمّ إدارة حوار كبير حوله مع أنفسنا، لن تكون استفادتنا منه حقيقيّة. ويكفي أنّ الدخول إلى العمل بِنيّة الكتابة عنه يجعلك تتعامل مع الكتاب بدقّة متناهية، ولا تفوِّت شيئًا منه، خشية أن لا تتمكّن من تقييمه التقييم الحقيقيّ والكتابة عنه بطريقة موضوعيّة، وهي المنهجيّة التي تُتّبع عادة في ضمان تركيز الموظّف أثناء حضوره للبرامج التدريبيّة، عندما يُطلب منه كتابة تقرير عن البرنامج في خطاب تكليفه بالمهمّة، فيدفعه ذلك للتركيز ومتابعة كلّ التفاصيل، حتّى لا يُحرَج بتغاضيه عن جزئيّات دوّنها غيره، وحتّى لا يكون تقريره أقلّ جَوْدة من غيره. ما يعني أنّ خلق منافسة أو تحدٍّ يدفعنا للإتقان أكثر، ونصبح مسيَّرين باتّجاه التركيز، ولسنا مخيَّرين؛ وسياسة الإجبار سياسة يُعتدّ بها في إطار صقل المهارات الإبداعيّة، كون المبدع فوضويًّا ولا ينهض بعمل إن لم يشعر بقيمته وقدرته على التنافس من خلاله، وإظهار تميُّزه وإبداعه، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال هذه الممارسة الإبداعيّة عندما نطلب من الكاتب ألّا يكتفي بالقراءة الكتابيّة، بل يمارس أيضًا النقد الكتابيّ، إن كان قادرًا عليه، فهو رافد كبير من روافد الإبداع ويُعَدُّ منعطفًا مهمًّا في الصناعة التي نقاتل من أجلها.
بقي القول: إنّ صناعة الإبداع الحقيقيّ تستلزم بَذْل كثيرٍ من الجهد، وتجاوز عددٍ كبير من المعوقات، وتلمُّس كلّ منهجيّة توصلنا بسرعة للإتقان والإبداع المطلوب، ومن ذلك، التناوب الإبداعي الذي نطريه ونرغب فيه، ونحاول تأطير الجميع عليه - إن لم يحبسنا حابس عنه - فهو رغم الجهد الذي يتطلّبه في تكوين المعارف وصقل المهارات في الاتّجاهين، إلّا أنّ مردوده كبير، ويعَدّ ضمن أولويّات التعلُّم الحقيقي، وتطوير أدوات المبدع، وصقل مهارته، وإيصالها إلى التفرّد والأصالة. ولا يخفى علينا أنّ إدراك كلّ هذا التفوّق والتميُّز يجعلنا ننسى كلّ ما بذلناه من أجله؛ فالكاتب الناقد يكفيه أن يقوم أثناء كتابته بسدّ كلّ الذرائع التي قد ينفذ منها البعض للتقليل من عمله، إذ تجعله خبرته النقديّة يُظهر العمل أقرب ما يكون إلى الكمال، بالإضافة إلى أنّ هذه التبادليَّة تُكسب صاحبها الاعتداد بالنفس، وهي الحاجة الملحّة التي لا غنى لأيِّ مبدع عنها، فهو يرى إمكانيّاته مقارنة بإمكانيّات الآخرين، وتنامي إبداعه مقارنة بغيره، ويستطيع تحديد موقعه من الإعراب إن كان في مقدّمة الصفوف أو في أواخرها، ويمنحه أيضًا القدرة على تبيُّن مواضع الخلل في كتاباته، من خلال المقارنة بينها وبين النماذج الرائعة التي يطالعها.
كذلك باستطاعة الكاتب الناقد تقييم أعماله، وهذه لوحدها مزية كبيرة يتمنّاها كلّ مبدع حتّى لا يخضع لأهواء النقّاد التجاريّين أو المقولبين الذين قد يرفعونه دون وجه حقّ، أو يسقطونه؛ فيكون استماعه للنقد مأمون العواقب، يعلمُ صالحه وطالحه وينتقي منه ما يفيده ويترك ما يضرّه. كلّ هذه امتيازات عظيمة تجعلنا نغبط من يستطيع بالفعل المزاوجة بين النقد والكتابة، فالقادر على الجمع بينهما لا يلبث أن يحصد نتيجة هذه المهارة المزدوجة، ويمضي في طريقه متفوِّقًا على الجميع، ويجعلنا نقولها بكلّ وضوح: إنّ مَن يستطيع أن يكون كاتبًا وناقدًا عليه ألّا يلتفت أبدًا إلى أقوال المخذِّلين أو بعض الجهّال، فالحكم على الشيء فرع من تصوُّره، ومَن لم يتذوّق العسل ويحصد نتيجة التداوي به لا يمكنه معرفة قيمته الحقيقيّة من شكله أو ممّا قيل عنه.