د. شاهر النهاري
كنت أحد من استبشروا وفرحوا وظهروا وناقشوا ونظروا وتحاوروا مع بعض أقرانهم على لمعة شاشة القناة الثقافية السعودية التليفزيونية بعد افتتاحها 1431هـ بكل حماس واجتهاد، ولو أننا كنا ندرك ونكتشف مع الوقت أن إمكانيات القناة وأهدافها ونسبة متابعتها أقل من أي طموح ثقافي شبابي، ولكنا بمحبتنا التففنا حولها كونها تمثل المنفذ الوحيد لنا، لنكتب بعض حروف ثقافتنا، ولو بأقلام الرصاص، وفي بعد تام عن مواضيع الجدل الفكري والسياسي الحرج، والتي كانت تدور قضاياها ورحاها بين أيدي ذلكم الجيل، وسط صحوة خانقة وشدة محاذير، ومحاولات متأدبة حريصة للترقي والتنوير دون تصادم.
القناة كان يتابعها أعداد بسيطة من المهتمين، يتم تبليغ أغلبهم برسائل خاصة من هاتف من سيظهر على برامجها الحوارية ضيفاً، وكم نتذكر من عفوية وهفوات كانت تحدث على الهواء مباشرة، سواء من الضيوف أو المذيعين، وكانت تمر مرور الدهشة والضحكة والعجب، وقد لا يتنبه لها أحد، حتى لو أعيدت الحلقة بالغد، بعد أن يتم حذف ما يخرج عن النص.
قناة كان لها كثير من المحاسن بمجرد تعارف أهل الثقافة، وطرح بعض المواضيع المشتركة في الأهمية، وكان الأستاذ عبد العزيز العيد يدير الأحداث بالموجود، وبتسليك عدم استقلاليتها إدارياً وضعف إمكانيتها مادياً، وبجهود المتعاونين الهواة، ونقص في تجهيزات وكوادر الأستوديوهات والإمكانيات لدرجة المجان، ولكنها ظلت في نفس الوقت حلماً وإضافة لتعداد القنوات التلفزيونية، ونافذة ربيع ثقافي تنامت أمنيات تفتح براعمها.
جهود وعلاقات شبه فردية، وأتذكر أننا كنا نفرح بأن يكون ظهورنا مع مذيع مبدع، مثل مديرها عبد العزيز العيد، أو نايف المالكي وسعد زهير، ومفرح الشقيقي وميسون أبو بكر، ومحمد الوشع، وعبدالرحمن الشاطري، وصالح المحمود، حتى نبدع معهم في حوارات تناغم واستعراض مقدرات معرفية، وكنا نعطي الحق لإعداد مجتهد من ياسر جنيد أو حسن مريع، ومها الشهري، ومها الفران، ومريم الجابر، وإيمان الأمير، وصالح الرعوجي، وعبد السلام الغامدي، وعبد الغني أبو حادي، وصلاح العضيلة، وعطية حنتول، وبضيوف يتباينون في مستويات ومساحات الثقافة والأهمية، متناغمين في إعطاء إضافات تترك مختلف الأثر على الشاشة، بين الحين والآخر.
قناة ثقافية معقولة في زمنها، ومعذورة ضمن حدود إمكانياتها، رغم أن أغلب برامجها كانت تعتمد على برامج الجلوس خلف الكاونتر، ونثر الكلمات بين الكاميرة الثابتة للضيف، وبين الكاميرا المتحركة، واستقبال مكالمات من المتداخلين، ودون خروج عن ضيق الأستديو.
قناة ثقافية كانت بحاجة للتنوع في البرامج الوثائقية والبحثية، وطرق مجالات الفن السمعي منه والبصري، والحسي، واليدوي وغيرها من مجالات الفن المتنوعة.
وقد استمر جندول جهود القناة يجدف في بحيرة الوسط حوالي عشر سنوات وصفها البعض بأنها عجاف، وقبل أن تتوقف كلياً في 2018م.
وضمن خضم الرؤية السعودية 2030 وفي أغسطس 2023م، قام وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود بتوقيع اتفاقية مع رئيس مجلس إدارة مجموعة إم بي سي (MBC)، الوليد بن إبراهيم البراهيم، تتضمن تدشين وتشغيل قناة تلفزيونية ثقافية، تحتفي بالثقافة السعودية بمختلف أشكالها وتنوعها، وعبر برامج متنوعة على مدار الساعة؛ رغبة من الدولة في ترسيخ مكانة السعودية بصفتها مركز الثقل الثقافي إقليميًّا، وعملاً على تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030 في مختلف جوانبها الثقافية.
أصدقائي المثقفين ألف مبروك لكم جميعاً، لنفرح دون مبالغة في النصح والإرشاد، ولا المقارنة بين قناة الأمس وقناة اليوم، حتى لا نتخبط في التمييز والمقارنات، ونظلم أو نتحيز، بل يجب أن نتذكر محاسن القديم، وأن نبتهج بالمولود الجديد، وأن ننظر له بعين استقلالية جديدة متطورة.
رؤية اليوم غير الأمس، ولا شك أن الثقافة المستهدفة والمعنية تختلف، وأن الأجيال تمضي، ولن تعود مراكبها للماضي، إلا على شكل تأطير أو إثبات أحقية، ولا شك أن الدعم هنا سيكون مثالياً لمن سيضعون أيديهم بأيدي القناة الثقافية القادمة، ولا شك أن طموحات وتطلعات وقدرات الجيل الجديد ستكون الأمر الفيصل، باعتبار أنهم ينالون فرصة هم أحق بها، فهم أصحاب ثقافة مختلفة متنوعة يجربون فيها الجديد والبعيد والعصري، ومهما رضينا أو اختلفنا حول مجالات ثقافتهم وتعمقها، وحول شخوصها، ومؤثريها، ومواضيعها، إلا أنها تظل الطريق الأحق والأكثر منطقية لصنع ثقافة جيل قادمة، ينجذب لها الشباب الجديد، ويحترم فيها وجود كبار السن، ممن لا يجب أن يبسطوا أذرعهم على ثقافة الجيل الحالي وأن لا يرسموا العراقيل بأفكارهم وطرقهم القديمة، وكم نتأمل في أن يكون هنالك ميزان وتوازن وتفاهم واحترام بين الأجيال، فلا ندخل في صراعات إثبات وجود جيل أو انعدام ثقافة فترة، وألا نهمش أو نحبط أو نحور حقيقة ما يحدث في ثقافة جيل اليوم، وبروح إنسانية منفتحة تقبل التنوع والاختلاف، ودون تهميش أو نسيان لأجيال الطيبين، ولو ببرامج محددة من الأثر والتأثير، ووقفات على مفارق الطرق، نحاول من خلالها تقريب جموع الأغلبية للواجهة الحالية، ودون عصبية الإقصاء، ولا هيمنة الطيف الأوحد.
القناة الثقافية احتياج وطني، وشعبي، وهي مقياس لمدى تقبل أو رفض الجديد، وهي واعدة بأن تمتلك من كل بحر قطرة، فنجد فيها عوامل وبراعم وأسس الإبداع، ومن الجنسين، وفي كل المجالات، حتى تتمكن القناة من التواجد والمنافسة، وحجز مكان لها بين قنوات التواصل الاجتماعي، التي تهيمن على الكلمة والمقطع في الوقت الحالي، والاستعانة بجامعات أصبحت تمتلك أقساما فنية وثقافية ضمن مناهجها، وبلا شك تمتلك الأسس العلمية لتكوين ثقافات الشعوب، وفي النهاية يمكن أن تكون هذه القناة مرجعاً لثقافة يجتمع حولها غالبية أهل الوطن، ثقافة أصيلة يثق بمردودها الجميع، ولها القدرة على بلوغ التنوع البشري للثقافات والفنون والإبداع وصنع المحتوى، والوصول ليس فقط للمثقف السعودي، ولكن لمثقفي شعوب عديدة تحب هذا الوطن، وتجاريه، وتنافسه، وتعتبره مثلاً أعلى لها في القدرة والأصالة والتجدد وصنع المعجزات.