ربما انتبه القارئ الكريم لعنوان مقالتي هذه على أنها مزحة مقالية أو مشاعر لقارئة عادية متأثرة بما قرأته في رواية «حوش عباس» التي ألّفها الروائي والصحفي السعودي الاستثنائي لغويًا وإبداعيًا جابر محمد مدخلي، والصادرة عن دار تشكيل في طبعتين خلال عام واحدٍ منذ صدورها. وإني لأصدقه وأصدقكم القول: أنني بالفعل قارئة وعادية جدًا ولذلك أسمي هذه مقالة وليست رؤية أو قراءة نقدية؛ لأنني أود أن أكتب ما دفعني للكتابة وليس للرقابة على هذا النص -أعني- رواية «حوش عباس» التي منذ أن رأيت الأخبار تتناقلها والصحف تتلقفها والقراء يتهافتون عليها وأنا في تمنيات بأن اقتنيتها من مكتبة جرير في أقرب زياراتي لها، ولما اقتنيتها وقرأتها عرفت لماذا أخذت كل هذا الصدى، وهذا البُعد الاجتماعي والإنساني واللغوي الهائل الذي تجاوز الخليج إلى الوطن العربي ثم إلى –عددٍ من الترجمات كما تابعت أخبارها- وحتى تعرفوا ما عرفته منذ قراءتي لهذا النص العالمي الإبداعي سأخبركم قبل كل شيء أنها رواية تمثل مرحلة جديدة لأدبنا السعودي، وتستحق -بالفعل- كل هذه الجلبة وهذا الانتشار السريع الجدير بها وأتوقع لها بأن تذهب إلى أبعد من ذلك. وهنيئًا للكاتب على هذا الإبداع، وهنيئًا لكل من قرأها قراءته التي سأؤكد له بأنه أمام متعة سردية لن ينساها للأبد.
* * *
»حوش عباس» هذا العنوان المُلفت للرواية، والتي سيحسب القارئ لوهلة أنه اسم لإنسان أو رمز لمكان ولكنه حالما يقرأها سيكتشف أنه مجرد نقطة تعقبها تحولات قاهرة كبرى، وسريعة، ومتأزمة بين الطفولة والرجولة، تحولات يعقبها تاريخ روائي سردي ليس سعوديًا ولا عربيًا فحسب، بل عالمي أيضًا؛ فالبطل من وجهة نظري يمثل طفولة العالم ويقوم بدور أطفال العالم كلهم. وسيكتشف القارئ طوال رحلة قراءته لها كل ما حدث داخل هذه النقاط الواسعة والموصوفة بدقة متناهية. وأعترف أن الكاتب استطاع أن يجعلني بقدرة فكره السردي أن أشم روائح الطعام، والأشجار، والصخور، والتربة. جعلني بكل صدق أسمع صوت المزامير، والحشرات، والصخور، والألحان والضحكات والبكاء. لقد كنت طوال قراءتي لهذه الرواية جزءًا لا يتجزأ من النص.
* * *
كان البطل «جيلان» هو محور وارتكاز لهذه الرواية. وهو الذي سأعتبره أول بطلٍ تُهدى إليه الرواية المكتوبة عنه، وهذا أول نجاح يحسب لكاتبها. إنه «جيلان» طفل الجبل، الذي يشهد له وعليه الانتماء إلى بقعة مولده، ونشأته، وأصدقائه، وحدوده العظيمة. طوال الرواية سيشدك «جيلان» ببره لوالديه وحنينه لأمه رغم كل شيء. وستعلم مع تعاقب الصفحات أنّ أمه بالنسبة له خطه الأحمر، وأنّ من تجاوزه قُضيّ عليه.
أعترف أنني ومذ بدأت قراءتي للرواية وأنا مشدودة تجاه ذلك الطفل المتحول فجأةً إلى رجل متخليًا عن مراهقته وشبابه. سرت معه في كل مشهد صنعه لنا الكاتب، أو صورة حية لا تقرأها فقط وإنما تلمس أحداثها وتشاهدها وكأنك جزء منها، ولا أبالغ إن قلت أني شممت جميع روائح الرواية: المطر فوق «جبل الدود» الذي كان محورًا مهمًا دارت حوله الرواية، وبقعة مقدسة لحياة البطل وعائلته، مع أنني لأول مرةٍ في حياتي أسمع عن هذا الجبل الذي خلقه أمامي وجعل له سبع جهات.
»جيلان» ابن الحدود، وابن الطفولة المبنية على ركنه الوحيد.
»جيلان» الذي لاذ بالجبل فارًا من سياط الظلم، والعنصرية، والتفرقة الأسرية، ومن جميع تلوثات، وحضارات المدينة البغيضة.
»جيلان» ابن السابعة، فالتاسعة قهرًا، الذي كبر في ليلة وضحاها. كبر حين اجتمع عليه شبيه «هابيل» في ذنبه، ووريث «إخوة يوسف» من دمه ولحمه في كيدهم ومكرهم.
فأي صبر سيردّ الروح لأمه؟ وأي رحمة ستواري سوءة إخوته؟ وأي شعورٍ إخائي سيهوّن على أخته «أماني» تلك الشخصية الروائية التي أؤمن جيدًا بأنها لم تُخلق إلا لتُعلّمنا معنىً عظيمًا للحُب والعطاء والخلود، والتي جعلنا الكاتب نحبّها ونتعلق بها كتعلق جيلان وتمسكه بها حبل لنجاته، ودواء لذاكرته، وروحه.
لقد استطاع «جيلان» أو الكاتب -لا أدري أيهما- أن يبكينا بصدق تام، ونزيه.. كلما سمعت شهقات بكاء «جيلان» أو أحد رفاقه في صوتي، وعشت وجعهم بقلبي، ورأيت كم علينا أن نعتبر دموعنا سعرًا عادلًا لقيمة كل روايةٍ نقتنيها ونقرأها.
سأقول بأنني لم ولن أنته من قراءتي لهذه الرواية التي سأظل أقرأها كلما احتجت لقراءة الروايات الخالدة. لقد شعرت أنني انتصرتُ في نهايتها لجيلان الذي سوّته لنا يديّ الكاتب -كما قال لنا في الإهداء- وظل «جيلان» يخطو بأمنياتنا حتى بلغ بنا الختام.
ولعل بعضًا من المشاهد المثيرة والكثيرة العالقة في ذهني من هذه الرواية ستبقى وستدوم ما حييت.
ومنها على المثال لا الحصر: حين وصل لفرحته التي طالما انتظرها، وعاش لأجلها.. ولما صار قاب لحظة منها آثر بها لقاء أن يرجع ليفي لمن وعدهم أنه سيفعل لأجلهم ك ل شيء. عودته تلك وعلى الرغم من لهفتنا لدخوله إلى جنته أشعرتنا ببطولته الحقيقية.
وكذلك لن أنس المعجزة التي أنقذتنا معه حين رأى صديقه «صولان» وقبل أن يصل إلى ملامحه ليتأكد منها كان تخميني يسبق المشهد: أطلال سيرى أم «فهد»؟ ولكن أن يكون «صولان» فهذه معجزة روائية، أو رواية إبداعية –أخرى- بجميع مشاهدها داخل هذه الرواية.
إن رواية «حوش عباس» واحدة من الروايات التي تركض نحو نهايتها وأنت تتمنى ألا تنتهي. وحين تنهيها تترك داخلك فراغًا بعدها إلا من أحداثها التي ستستعيدها مجبرًا كلما تذكرتها؛
-لبقائها بذهنك- ومرورها بحياتك وخلود شخصياتها في واقعنا وأرضنا.
ولعل من أبرز ما لفت انتباهي أيضًا تلك الحِقب الزمنية المتماسكة بالرواية: التاريخ، والأشهر والأيام، والأعوام وكأن جميعها ترتبط بحدث ما في الجهة المقابلة من ذهن الراوي، وحياة وطننا، وسيرة أطفال العالم.
»حوش عباس» رواية التسلسل الذي يجعلك تشاهد الأحداث وأنت تقرأها كما لو أنك أمام شاشة تلفزيونية، لا تتمنى أن يفصلك عنها أي فاصل.
ثم إنني لن أنس أبدًا أين تعالت شهقاتي :
لقد تعالت حين اقترب من أهله بعد عمر من الغياب والتيه دون أن يملك حق الخطوات إليهم.. وفي مواقف كثيرة لا حصر لها.
لا أستطيع القول بعد كل هذا إلا أن الكاتب استطاع بجدارة أن يخلق داخلنا ما خلقه داخل أبطاله، وتحديدًا «جيلان» فكيفما خُلقت الفرحة والحياة في قلبه خلقت بنا، وكيفما عانق أهله بنظراته وقبّلهم بخيالاته وأحلامه وأمنياته بلقائهم فعلنا معه ذلك أيضًا...
وأخيرًا لا أقول إلا قراءة ممتعة أتمناها لكل من قرأ مقالتي هذه، ولكل من سيقرؤها ذات يوم...
** **
- نجلاء عبدالرحمن