كانت معرفتي بالأستاذ الدكتور صالح الغامدي سنة 2017م، عام التحاقي بجامعة الملك سعود، وبالتّحديد قسم اللغة العربية وآدابها، وكان من حسن حظي أن أكرمني الله بنخبة من الأساتذة الذين أعتزّ بهم ويعتزّ بهم غيري، وشاء الله أن درّسني الأستاذ الدكتور صالح الغامدي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه؛ ففي الماجستير التقيت به مرتين في فصلين مختلفين، مرة - وكانت أوّل لقائي به - في مقرر نظرية الأدب، كانت فرصة ذهبية للارتقاء بذوقنا الأدبي والنقدي؛ حيث إنه غذّى عقولنا بالفوائد الهائلة التي فتحت علينا أبواب التفكير الإبداعي. ومرّة أخرى في مقرّر الأدب المقارن، وهنا اكتشفنا جانبًا جديدًا من جوانب مواهبه المتعدّدة؛ حين يزوّدنا بمراجع باللغة الإنجليزية شأنَ من أتقنها أو أجادها على الأقلّ. وكلنا يعلم أنّ الأدب المقارن له مشكلاته الخاصّة التي تتطلّب كفاءاتٍ خاصّةً ومجموعة خاصّةً من الإمكانات المعرفية، فهو عمل لا يستطيع القيام به إلا من كانت ثقافته واسعة، وهذه مزيّة تُحسب لأستاذنا الدكتور.
أمّا في مرحلة الدكتوراه فكان لقائي به في مقرّر «قضايا النقد العربي القديم»، حيث أحاطنا بما ينبغي من أمّات كتب النقد، وربّى أذواقنا، وصقل مواهبنا بما قدّم لنا من استراتيجيّات قرائيّة تفيد في سبيل تنمية الموهبة وتربية الذوق. والله يعلم كم تمنيت أن يشرف على رسالتي الماجستير، ولكن القدر سبق الأمر. وربما تكفي هذه المدّة الزمنية التي قضيتها في القسم، وعرفت فيها شخصيته، وألفت فيها أسلوبه لأن أكتب عن هذا العقل الجبّار، والنموذج العلمي المميّز.
يعرف من يعرف الأستاذ الدكتور أنه ذو جوانب متعدّدة، منها ما يتعلّق بإنسانيّته، ومنها ما يتعلّق بعلمه، ومنها ما يتعلّق بفكره، وهكذا. وسأركّز في هذه العجالة على جانبين مهمّين من جوانبه المتعدّدة، وأقدّم جانبه الإنساني على جانبه العلمي؛ لأنه كان إنسانًا قبل أن يكون عالمًا، وكان والدًا قبل أن يكون مدرّسًا، إضافة إلى أنّ هذا الجانب له أثر بادٍ على الجوانب الأخرى في شخصيته. فنراه في هذا الجانب رقيق الحال في الأعمال، وفي الجانب الآخر دقيق النظر في العلوم، ونراه محبًّا مخلصًا لمهنته، فكان يحيطنا بعناية كبيرة، مقدمًا أقصى ما لديه من ذخائر معرفية لنستفيد من علومه وخبراته، ولا يفوته فسح المجال أمام الطالب ليبرز ما لديه من وجهة النظر حتى وإن خالف وجهته. ويُضاف إلى ذلك تميزه بالخلق السامي الرفيع، وليس أدلّ على دماثة خلقه مثل تعامله مع طلبته بأقصى درجة الإنصاف؛ فلم تحفظ له الصورة النمطية تجاه الطلاب الوافدين، ممثلة في أنّ عقولهم لا تتوصّل إلى فهم التراث بسبب ضعف مستواهم في اللغة العربية، فغيّر بسلوكه هذه الصورة النمطية التي تكاد تكون سائدة. ولهذا الجانب أبعاده التي قد يطول الحديث فيها عن شخصية أستاذنا الدكتور صالح الغامدي.
أمّا الجانب العلمي للدكتور، فيتمثّل في أنه من القلّة القليلة الذين يَفهمون ويُفهِّمون، وقديمًا يُقال: «قلّ من يَفهم ويُفهِم». أراه في هذا الجانب متعدد المواهب، فكم مرة يبهرنا فيها بإحاطته الشاملة بمسائل علمية وقضايا نقدية، فنعجب له من طرائق عرضه الأفكار والتصدّي لنقدها بمبرّرات منطقيّة تحسب له من عمق ودقة. ولهذا الجانب أبعاد كثيرة يمكن الكتابة فيها، منها نظرته التّوافقية على المواءمة بين الاستفادة من التراث والانفتاح على الحداثة، ومن أثر هذه المواءمة إحالته المعتادة إلى دراسات الباحثين غير العرب، وإلى مؤلّفاتهم بذكر أسماء مؤلّفيها من دون خطأ كما لا تخطئ اليد طريق الفم، ويدعم هذا القول ما قال لي عنه أحد أساتذة القسم لما ذكرته عنده، فقال: أتعرف من ذكرت؟ قلت: نعم، قال: يجهله من لا يعرفه؛ فذلك عالم كبير يرى بعينين ثاقبتين.
وله مراجعات نقدية تدل على سعة معرفته ومدّ نفسَه الاستنباطي، ضمها كتابه الموسوم بـ «سلطة المعنى»، استنبط فيه الدكتور الخلاصة النقدية في قضايا النقد القديم، وما حُوِّل ربطها منها بنظرية حديثة كقضية «السرقات» على سبيل المثال، وأذكر في هذا الإطار محاولة الدكتور عبد الملك مرتاض في الربط بين فكرة السرقات بمصطلح «التناص» في بحثه الموسوم بـ «فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص»، وهو كما يبدو في هذا البحث يميل إلى إنكار تسمية «السرقة» بهذا الاسم، وهذا الأمر قد استوقف بعض النقَّاد الكبار منهم الأستاذ الدكتور صالح بن معيض الغامدي، فقدّم ملاحظاته حول البحث بطريقة علمية مفادها أنّ نظرية «التناص» وحدها غير قادرة على نفي وجود بعض السرقات وفق رؤى القدامى والشعراء كما قرّر ذلك الكاتب، وأنّ علينا وضع أزمة الإبداع التي عاشها الشّعراء والنقاد في الحسبان في تفسير قضية السرقات في الأدب العربي، أضف إلى ذلك ما أورثته إيجابيات التعمق في التراث وإيجابيّات الانفتاح على الحداثة من إنكاره ورفضه مبدأ «سبقناهم» الذي يتشدق به بعض الباحثين العرب ومنهم عبد الملك مرتاض في بحثه السابق، في تنافسهم الشديد مع الغرب، حين يقرّر سبق النقد العربي القديم إلى معرفة نظرية «التناص» كما هي عند الغرب اليوم بصورتها.
وله قلتُ هذه الأبيات:
أَ صَالِحُ الْغَامِدِي، حَسَّنْتَ وَضْعَ فَمِي
وَبِالْمَكَارِمِ قَدْ غيَّرْتَ لَوْنَ دَمِي
لَمَّا عَرَفْتُكَ كَمْ رَبَّيْتَ ذَائِقَتِي
عَلَى الْمَبَادِئِ وَالأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ
وَقَبْلَهُ كُنْتُ لَوْ أَوْدَعْتَ مَاءَكَ فِي فَمِي
تَحَجَّرَ مِنْ عِيٍّ وَمِنْ بَكَمٍ
صَنَعْتَنِي نَاقِدًا مِنَ الطِّرَازِ الَّذِي
يَرْضِيكَ عَنِّي كَفَرْدٍ مِنْ بَنِي الْعَجَمِ
إِذَا تَذكَرْتُ أَنِّي مِنْ تَلَاميذِهِ
حَسِبْتُهُ نِعْمَةً مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ
يُحِبُّ مَنْ كَانَ جَادًّا فِي دِرَاسَتِهِ
يُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ هِمَم
وَتَقْتُلُ الطَّالِبَ الْكَسْلَانَ هَيْبَتُهُ
فِي مَوْقِفِ الْعِلْمِ أَوْ فِي حِرْفَةِ الْقَلَمِ
ضَرُورَةٌ عِنْدَهُ الِإبْدَاعُ تُعْجبُهُ
وَهْوَ التَّمَيُّزُ فِي التَّقْدِيرِ كَالشَّمَمِ
مَا نِلْتُهُ مِنْكَ مِنْ عِلْمٍ يُرَافِقُنِي
مَدَى الْحَيَاةِ وَمَا أَحْرَزْتُ مِنْ شِيَمٍ
وَلَوْ سَلَوْتُ عَنِ الْأَشْيَاءِ قَاطِبَةً
لَمْ أَسْلُ عَنْ دَوْرِكَ الْفَعَّالِ وَالْقِيَمِ
** **
عبد الكريم إسماعيل ماكنجوأولا - طالب الدكتوراه بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الملك سعود