أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال توماس في الكتاب الأول من الخلاصة اللاهوتية: «فالتعليم المقدس إذن ليس له علم أعلى منه، فهو يناظر بطريقة الاستدلال من يجحد مبادئه متى كان الخصم مسلِّماً بشيئ مما قد حصل بالوحي الإلهي، كما يناظر المبتدعين بآي الكتاب المقدس ومن يجحد عقيدة أخرى.. أما متى كان الخصم غير معتقد شيئاً مما كشف بالوحي الإلهي: فليس بعد ذلك من سبيل إلى إثبات العقائد الإيمانية بالأدلة، بل إلى نقض ما قد يورده من الحجج المضادة للإيمان؛ لأنه كما كان الإيمان مستنداً على الحق المعصوم، ويستحيل إثبات ما يضاد الحق بالبرهان: وضح أن الحجج التي تقام على نقض الإيمان ليست براهين، بل أدلة مردودة.. على أن التعليم المقدس قد يستخدم العقل الإنساني.. لكن ليس لإثبات الإيمان؛ لأن ذلك ناسخ لاستحقاق الإنسان، بل لإيضاح ما يورد فيه مما سوى الإيمان؛ لأنه لما كانت النعمة لا تنسخ الطبيعة؛ بل تكملها: وجب أن تخدم العقل الطبيعي الإيماني.. ولذلك ما يستشهد التعليم المقدس بأقوال الفلاسفة أيضاً في ما قدروا على إدراكه بالفطرة الطبيعية.. ومع ذلك فالتعليم المقدس إنما يأتي بمثل هذه النصوص على أنها أدلة أجنبية وظنية.. وأما نصوص الكتاب القانوني، فإنما يوردها على أنها خاصة وضرورية.. وأما نصوص سائر أئمة الكنيسة فيوردها على أنها أدلة خاصة لكن ظنية؛ لأن إيماننا مستند على الوحي المنزل على الرسل والأنبياء الذين دونوا الأسفار القانونية.. لا على الوحي الذي ربما هبط على غيرهم من العلماء».. ( أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى للدكتورة زينب محمود الخضيري ص 150).
قال أبو عبدالرحمن: الخلاصة اللاهوتية لتوماس الأكويني ( 1225-1274ميلادياً ) نقل إلى العربية بترجمة الخوري بولس عواد وطبع في ثلاثة مجلدات بالمطبعة الأدبية ببيروت طبعة قديمة منذ أكثر من مئة عام؛ إذ صدر فيما بين عامي 1887-1891ميلادياً.. وكذلك نقل إلى العربية كتابه الوجود والماهية بترجمة وتقديم الأب بولس سعد، وطبع قديماً بدون ذكر لتاريخ الطبع.. ولم أطلع على الكتابين إلا من خلال ما نقلته الدكتورة (زينب الخضيري) منهما، ومن خلال ما يقصه مؤرخو الفلسفة واللاهوت ودارسوهما من أفكار توماس وفلسفته واجتهاده.. والمكتبة العربية بحاجة إلى إعادة طبعهما، وترجمة أمثالهما لإشباع دراسات الأديان من مصادرها مباشرة.. ونفي إثبات العقائد بالأدلة العقلية والحسية مما يتحاشاه توماس؛ لأنَّ أعظم وأول ما يواجهه عقيدة التثليث.. ولم يعلل توماس نفي إثبات العقائد بالدلائل بهذا السبب؛ بل علل بأن ذلك دون استحقاق الإنسان.. والمحقق أن كل دين سماوي ثبتت صحته دلالة وثبوتاً: فإن حقائقه تثبت وتصح بالدلائل العقلية والحسية، ولكن على ثلاثة أنحاء مختلفة من الدلالة على هذا - شواهد العقل الحسية، وبراهينه - مبادئه الفطرية والكسبية - على وجود الرب، وكماله المطلق إجمالاً، وضرورة النبوات والشرائع وصدقهن، ودلائل صدق نبي معين وشريعة معينة بالمعرفة الحسية التاريخية المحيطة بنشأته وبعثته وسيرته وأحداث حياته، وما في ذلك من البراهين على صدقه، وأنه مرسل من عند ربه.
2 - المعتقد العقلي بأن ما صدر عن الشرع معصوم صدقاً وعدلاً وإحساناً وحكمة وكمالاً.. سواء أتوصل إلى الجزئية بمعارفة الحسية والفطرية مباشرة، أم فوض العلم إلى عالمه.. فالحكم بالتصديق في الحالتين واحد ؛ لأن قيام البرهان العقلي على عصمة الشرع إجمالاً يلزم عنه صدور العصمة تفصيلاً.
3 - يحصل من فهم تفصيلات الشريعة، ومشاهدة الفطرة في العقل والطبيعة، وبرهان العقل على أن مصدرهن واحد؛ وهو الله سبحانه وتعالى تنزيلاً وخلقاً.. يحصل من كل ذلك تعميم عقلي برهاني يقضي بأن تفصيلات الشريعة لا تناقض واقع الطبيعة حساً، وفطرة العقل فهماً وحكماً؛ بل تفصيلات الشريعة: إما زيادة علم مغيب يقربها العقل حكماً وتصوراً تقريبياً من خلال الوصف ويعجز عن التكييف والتحديد بكمية.. وإما علم يشارك العقل في فهمه استقلالاً.
فالمغيب يصدقه العقل بمقتضى النحو الثاني السابق، ويصدقه بمحصول علمه الفطري والكسبي بتخلف المانع من صحة التفصيل الشرعي؛ وهو علم عقلي بعدم المانع، وليس مجرد عدم علم به.
والعلم الذي يشارك فيه العقل مثل حكمة القصاص وكونه حياة، فإنه يصل إلى هذه الحكمة استقلالاً من شواهد التجربة البشرية، وشواهد التجربة البشرية الفردية من إمساك المجرم إذا لم يأمن العقوبة والإفلات.. ومثل العدل والإحسان يعلم العقل منهما شيئاً بتفصيل الشرع، ويعلم منهما شيئاً بإدراكه التأملي، وأحكامه الضرورية أو الرجحانية؛ إذن العقل يعلم صدق الحقائق الشرعية إجمالاً، ويعلم شيئاً من تفصيلات الشرع استقلالاً، فيجيئ الشرع لتثبيت يقينه.. وكيف يكون العقل محروماً من الاستدلال للشرع (والاستدلال به ومنه) وكل الأديان السماوية جعلته شرطاً للتكليف والفهم، ولا إيمان معتبر بغير عقل يعي ويفهم ويميز مراد الله منه؟.. وحرمان العقل من إقامة الدلائل على العقائد والمطالبة بالإيمان فحسب إلغاء للسبيل الوحيدة التي علم بها أن ذلك النبي مرسل من عند ربه، وأن ذلك الدين مما جاء به عن ربه؛ وهذا الحرمان أيضاً يفضي إلى رفع المميز بين مدعى النبوة، والدين المنسوب إلى الله كذباً، والنبي الصادق والدين الصادق.. وأما الاحتجاج لهذا الحرمان بأن الشرع ناسخ لاستحقاق الإنسان فجملة في غير محلها؛ لأنَّ الله لم يجعل للإنسان حق التشريع استقلالاً دون شرع معصوم ألبتة؛ فيكون للنسخ أدنى مفهوم هاهنا.. والله سبحانه لم يلغ الاستحقاق الإنساني ألبتة من جهة التلقي العقلي للشرع استدلالاً وفهماً وتمييزاً، وقد أسلفت أنه شرط التكليف في كل الشرائع السماوية، والاستحقاق الإنساني في هذا المجال ليس أمراً كسبياً، وإنما العقل منحة من الله أقام به الحجة على خلقه، فكان استحقاقاً لهم من الله بمقابل تكليفهم وحرية اختيارهم، وحجة المجنون عند ربه أن ربه أخذ منه ما وهب فسقط عنه ما وجب بإسقاط الله عدلاً منه ورحمة.. والاستحقاق العقلي هاهنا أن الله جعل العقل حجة على ابن آدم يستدل به على صدق الشرع، ويستخدمه في فهم مراد الله منه، ومعرفة ما ينفعه ويضره دنيا وآخرة، ويملك به الترجيح بين لذة دنيوية زائلة، وألم أخروي دائم.. ونصب دنيوي مؤقت بمقابل راحة وجنة أخروية دائمة.. وليس للإنسان بعقله استحقاق - ولا كرامة - أن يستدرك على شرع ربه، أو يزيد عليه احتياطاً، أو ينقص منه تخفيفاً.. والنعمة عند توماس الشريعة، ونحمد الله على نعمة الإسلام، ولا معنى للنسخ عنده إلا أن تأتي الشريعة بما يخالف الفطرة الطبيعية؛ وهذا صحيح، فالشرع لصلاح السلوك في الطبيعة، والدين قضاء اللهلشرعي المتروك القيام به لمعتقدات الملكفين وأقوالهم وأفعالهم.. والخلق بكل سلوكهم لا يملكون تبديل ما أبرم الله قضاءه كوناً، وإنما ينسخ بعض أحوال الطبيعة قضاء الله الكوني.. وكذلك الشريعة لا تنسخ فطرة الله العقلية، والعقل جزء من الطبيعة، وإنما يتصرف في العقول قضاء الله الكوني.. ومن المسلم به أن الشرع يخدم العقل ويهديه، وكذلك العقل أودع الله فيه من القوانين الفطرية، ومنحه من البدائه الكسبية ما يستدل به على عصمة الشرع.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أعرف أدنى علاقة لنسخ الطبيعة، أو العقل، أو عدم نسخهما بمسألة أن العقائد يُستدل لها من العقل؟.. و(توماس الأكويني) من العقول البشرية النادرة، ولكن لم يُعصم ذو عقل من الفضول، فيورد قضايا لا ترد على محل النزاع بسلب أو إيجاب.. وفي آخر كلام توماس لفتة نفيسة تشبه لفتة ألبرت الكبير (1206-1280ميلادياً ) الذي فرق بين اللاهوت المقدس (وهو الوحي المنزل) واللاهوت الطبيعي (وهو اجتهاد العلماء).. والعالم قد يصل إلى المراد الشرعي حدساً؛ أي برؤية قلبية مباشرة، وذلك من ثمرات الإيمان، وقد يصل إليه إلهاماً ثم يجد صحته استدلالاً، وقد تكون أدلته إلهاماً، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا سمى توماس ذلك وحياً، ويكفي أن ذلك الإلهام ليس حجة على الآخرين. وفي فلسفة الأكويني هذه تناقض؛ فإنه رفع مستوى حقائق الشرع أن تكون بحاجة لاستدلال العقل عليها؛ لأنَّ الدين ناسخ للاستحقاق الإنساني، ثم عاد في موضع آخر وقال: «إن التعليم المقدس قد يستخدم العقل الإنساني لإيضاح ما يورد فيه مما سوى الإيمان». قال أبو عبدالرحمن: كل ما في الدين من خبر يقتضي تصديقاً، أو طلب يقتضي امتثالاً فهو جزء من الإيمان، والعقل بأدلته على العقائد يجلو غموضاً يحول دون التصديق بها، كما هو هاهنا يجلو غموضاً يحول دون فهمها، ولا يوجد فرق مؤثر بين الأمرين، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
**
وكتبه لكم: (محمَّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -