أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
يسعى المشتغلون بعلوم الطبيعة والإنسان وما يتصل بها من بحوث نظرية وتطبيقية رائدة ومشاريع تنفيذية كبرى وبرامج تعليمية مهمة سعياً حثيثاً، على مستوى العالم وخاصة الغربي منه، لربط العلوم بعضها ببعض أبستمولوجياً على المستويين الكلي والجزئي وفق نهج بينيٍّ تبادليٍّ تفاعليٍّ منظوميٍّ نظريٍّ تطبيقيٍّ راجعَ التغذية. فمنذ بدايات هذا القرن والأطر المرجعية العلمية العالمية في هذا المجال تسجل شواهد سبَاقٍ وثَابٍ مبرمجٍ مدروسٍ تقوده بعض دول كوكب الأرض المتقدمة المعنية في الشرق والغرب بتطوير المعرفة وما صاحبها من منجزات علمية عملاقة لم تكن من الممكن أن تتبلور بالوضع المبشر الذي هي عليه اليوم لولا البرامج المنظومية والخطط المنظورية الشاملة التي وضعت لتعزيز التفاعل بين العلوم من ناحية وبين المشتغلين بها من ناحية أخرى. ولهذا لا غرو أن تنشط في السنوات القليلة الماضية ورش العمل والدورات التدريبية واللقاءات العلمية والندوات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والعالمية وفرق العمل التخصصية المشتركة التي ينتمي أعضاؤها على مستوى العالم إلى حقول معرفية طبيعية وإنسانية دقيقة مختلفة انصهر بعضها في بعض تحقيقاً لأهداف التفاعل بين العلوم وتطوير نظمه وبرامجه واستراتيجياته المتنوعة. وعلى الرغم من تباين معارف العاملين في تلك الفرق واختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم العلمية والأكاديمية إلا أنهم لم يدخروا جهداً كي يعملوا معاً كفريق علمي واحدٍ لإجراء دراسات الجدوى التنموية الكبرى والقيام بالمشاريع العلمية العملاقة والأبحاث التطبيقية الرائدة وتطوير برامج التعليم العام والعالي وخططه بالشكل الذي يحقق أهداف التفاعل بين العلوم التي ينتمون إليها أو تلك الممثلة في فرق العمل المشتركة التي ينفذون من خلالها المهام العلمية المنوطة بهم.
ومواكبة لهذا المسار، قامت بعض كبريات جامعات الشرق والغرب بإعادة النظر في خططها التعليمية وبرامجها البحثية وصياغتها من جديد بشكل يحقق تفاعلاً وشيجاً بين مختلف العلوم دون التأثير سلباً في مستوى العمق التخصصي الدقيق للمواد والمقررات التي تحويها الخطط الدراسية والبرامج التعليمية ونظم البحث العلمي النظري والتطبيقي في تلك الجامعات. كما قامت جامعات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر بدمج تخصصات العلوم والآداب في كلية واحدة هي «كلية العلوم والآداب» كما دُمجت في تلك البلاد نفسها علوم البيئة والأحياء والجغرافيا والطب البيئي والأسري في كليات تسمى «كلية علوم البيئة» أو «كلية الشأن العام». وفي المقابل أدرجت الكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والبيئة في كلية واحدة تسمى «كلية الجغرافيا» كما هو الحال في روسيا. كما تم دمج بعض أقسام علمية في بعضها أو جمعها في كلية واحدة ككليات: «السياحة والآثار» «والعمارة والتخطيط» «والحاسب والمعلومات» و»اللغات والترجمة» أو دمج الجغرافيا ونظم المعلومات الجغرافية في أقسام تسمى «المعلومات المكانية» التي أصبح بعضها كليات بالاسم نفسه فيما بعد. وإضافة إلى ذلك الدور الذي لعبته وتلعبه الجامعات في هذا المجال، فقد نهجت نهجها مؤسسات غير جامعية كمراكز خطوط الإنتاج التقني وأودية البحث التطبيقي المتقدم المترامية الأطراف التي أصبحت اليوم نتيجة لجهودها ودعمها لسيناريوهات التفاعل بين العلوم وبرامجه وانتمائها له رموزاً مرجعية رئيسة فاعلة في هذا السباق العلمي العالمي الواعد. ولذا لا عجب أن يتمخض عن هذا السباق العديد من المجالات التي تعد منجزات منظورية مهمة في مسار التحولات المعرفية المرجعية المفاهيمية المعاصرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ثورة المعلومات وانفجارها وسرعة تخزينها واسترجاعها، وتطور وسائل المواصلات والاتصالات، وتضخم الشبكات العنكبوتية وتعددها، وتفشي شبكات التواصل الاجتماعي والمعرفي، وتقدم وسائل تقريب المسافات، وتقليص الأبعاد الزمكانية وتنوعها. وهناك مجالات لقضايا مهمة أخرى لا تقل مكانة عن سابقتها الآنفة الذكر في التأثير على مسار التفاعل المعرفي بين العلوم كطفرة الروبوتات بمختلف أحجامها وأنواعها وأغراضها بما في ذلك النانوية منها تحديداً، وتهجير المادة أو تسفيرها كمومياً على غير المألوف عبر النسيج الزمكاني الكوني بسرعات خيالة غير مقيسة. ولا شك إِن حدث هذا التهجير تحديداً فسوف تعترِض المادة، حسب نظرية النسبية الخاصة، لتحولات فيزيائية مدهشة غير مألوفة منها، تقليص حجم المادة المهاجرة وتقزيمها، وتباطؤ زمنها أو توقفه، وتعاظم كتلتها إلى حدود قصوى تعجز بسببها الطاقة الداكنة الكلية المتاحة في الكون من تحريك ما سكن منها أوعكوسيتها. وإلى جانب كل ما ذكر آنفاً، فقد أفرز التفاعل المعرفي بين العلوم أيضاً مجالات نوعية فريدة تحوي قضايا مدهشة أخرى تمثلت في كبسلة فواصل الزمن أو تقزيمها مختبرياً لتحقيق أغراض بحثية دقيقة تُجرى ضمن وحدات قياسية زمكانية فيزيوكيميو رياضية تتراوح من أقل من الملي ثانية إلى الكرونن وما دونها عبر تطور مستمر بالثواني من الملي إلى الميكرو فالنانو فالبيكو فالفيمتو فالأوتو ثم الزييبتو ثانية. ونتيجة للتطور الذي انبثق عن التفاعل الناجح المدروس بين العلوم أصبح من الممكن توظيف أبحاث الفيمتو ثانية تحديداً في رؤية نبضات الذرات ضمن فاصل زمني يعكس ما تمثله الدقيقة الواحدة من عمر الكون. كما أصبح من الممكن نتيجة لهذا التطور الفيمتوي من إكمال تفاعلات كيميائية ما كان من الممكن أن تستكمل خارج نطاق هذا المستوى الزمني المتناهي الصغر كتمييز هياكل الذرات، وتشكيل أنواع جديدة من المادة، وإعادة ترتيب ذراتها نانوياً. ولقد أسهم ذلك التطور الفيمتوي بقوة أيضاً في مجالات عديدة أخرى منها على سبيل المثال لا الحصر العمليات الجراحية التي قد تجرى للعين والمخ والأعصاب باستخدام الليزر عند مستوى فيمتوى يسافر خلاله الضوء مسافة تعادل3.0 مايكرومتر أي ما يقارب قطر أدق الفيروسات حجماً. ولذلك من المتوقع أن يسهم هذا التطور المدهش قريباً في توليد أساليب مبتكرة للتعامل مع الفيروسات والبكتيريا، والتحكم في درجة تأثيرها على الإنسان والحيوان، وتقليص حجم الإصابات الفيروسية والأمراض المهاجرة أو المستوطنة المعدية القاتلة. وإضافة إلى كل ما سبق ذكره أعلاه، فقد سُجِّلت خلال فترة قصيرة خلت من هذا القرن، نتيجة للتفاعل بين مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية، تطورات عديدة أخرى غير مسبوقة شملت مختلف مجالات نظرية المعرفة العلمية وآفاقها المنهجية النظرية والعملية التطبيقية الرحبة التي لعبت دوراً نوعياً فاعلاً في تطوير العديد من برامج الكشوفات العلمية ومنها تحديداً برامج استكشاف الفضاء ابتداءً من كوكبنا ونظرائه الآخرين من كواكب مجموعتنا الشمسة، وانتهاءً بأنجم وسدم مجرة التبانة التي تعد واحدة من بلايين المجرات التي يتألف منها كوننا المنظور الذي تتمدد أطرافه البعيدة عنا بسرعة تقترب إلى حدٍّ كبير من سرعة الضوء. ولم تقتصر برامج الفضاء ودراساته ومنجزاته على ما سبق ذكره أعلاه فحسب، بل تجاوزت ذلك بمراحل قياسية عبر جهود بذلها علماء من مختلفي التخصصات المشارب والتوجهات عملوا معاً لرصد تريليونات الأنجم التي تضمها تلك المجرات. كما تم في الوقت نفسه كشف الستار عن طفرة منظورية فضائية معلوماتية رياضية صارخة فائقة الدلالة فيزيائياً انبثقت عن حساباتها أكوان موازية لكوننا المشاهد المقيس قدرت أعدادها بالرقم عشرة مرفوعاً للأس خمسمائة كون.