تعد ظاهرة التصحّر من المشكلات البيئية المهمة (المتعدية) والتي تؤثّر على مناحي الحياة المختلفة ولها آثار بيئية واجتماعية واقتصادية سلبية متعددة على معظم دول العالم، فهي تهدد الأمن الإنساني وتشكِّل خطراً على المجتمعات المختلفة وأمنها الدولي، لذلك تحتل مقاماً مهماً في الأجندة الدولية. ونظراً لخطورة التداعيات والآثار الناجمة عن هذه الظاهرة فكان لازماً على المجتمع الدولي والإقليمي أن يضع إستراتيجيات لحوكمة هذه الظاهرة والتصدي لها وأن يلزم كل دولة بضوابط وأسس في توفير الآليات المختلفة للنهوض بالمجتمعات والمحيط البيئي الذي تعيش فيه دون ترك آثار سلبية على البيئة والمناخ والإنسان.
في إطار اهتمام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية وبروز تحديات ومشكلات بيئية محلية وعالمية عن ظاهرة التصحر تقتضي سرعة التحرك لمواجهة تداعياتها، فقد أولت القيادة الحكيمة اهتمامها باستضافة الدورة (16) لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر ووضع الترتيبات والإجراءات اللازمة لتنظيم المؤتمر، وذلك لما للمملكة من دور رائد ومتميز في مبادرات الحد من تدهور الأراضي على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي، وامتداداً لمبادراتها العالمية (السعودية الخضراء) و(الشرق الأوسط الأخضر) و(المبادرة العالمية للحد من تدهور الأراضي وتعزيز حفظ الموائل الأرضية) وغيرها.
وفي هذا الصدد فقد قامت المملكة العربية السعودية متمثلة في (وكالة البيئة بوزارة البيئة والمياه والزراعة) بدورها منذُ إنشائها للارتقاء بالمجتمع وتبصيره وتوعيته بكافة المجالات البيئية وبمخاطر ظاهرة التصحر وتداعياتها السلبية على الإنسان والمجتمع والبيئة. وتُعد استضافة المملكة لمؤتمر الأطراف فرصة تاريخية كبرى في تاريخ المملكة لخلق تجمع دولي يعكس ريادتها واهتماماتها وارتقائها بالعمل البيئي لحماية المجتمعات وبيئات الكوكب وهو يمثل امتدادا لدورها وتاريخها المعهود في خدمة البشرية.
البعد الاجتماعي لظاهرة التصحر
هنالك العديد من الدول والأقاليم المتوقع أن تتأثر بشدة من ظاهرة التصحر ومن ضمنها المملكة العربية السعودية من جراء الآثار السلبية الناجمة عن الجفاف واحترار الكوكب ومختلف الممارسات الحياتية السلبية في المجتمعات المحلية في استهلاك الموارد وتغيير اتزان البيئات الطبيعية كالرعي والاحتطاب الجائرين والصيد غير المستدام والتوسع العمراني والزراعي غير المرشد وعدم اتباع النهج الحديثة لتنمية الثروة الحيوانية والإخلال بالموارد المائية وجودتها وغيرها من ممارسات، ومن ثم تنعكس على الاحتياجات الاجتماعية لبعض الفئات المتأثرة من جراء هذه التغيرات وقد تزداد معها التكلفة الصحية والثقافية لتنمية رأس المال البشري في المجتمعات المحلية، وعلى الرغم من إطلاق الدول للإستراتيجيات الوطنية لحماية البيئة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ويتم تطبيقها بالجودة المنشودة إلا أن هذه الجهود في كثير من الدول مازالت بحاجة إلى تعزيز التنفيذ والتطبيق خاصةً في المجتمعات المحلية، كما تواجه تلك الدول الكثير من التحديات خاصة المرتبطة بالتمويل ولذا فلا زال المنال المرغوب في مواجهة آثار التصحر وتغير المناخ على الفئات الأكثر تضرراً ليس بقريب، وقد لا تشمل مظلة الحماية الاجتماعية جميع هذه الفئات المتضررة، ومن هنا سوف تبرز لمؤتمر الأطراف لمكافحة التصحر عدة تساؤلات مؤداها:
- هل هناك مستويات حرجة لآثار اجتماعية لظاهرة التصحر للفئات المختلفة في المجتمعات المحلية؟
- وكيف ستكون انعكاسات ظاهرة التصحر على الفئات الأكثر تضرراً؟
- وما التكلفة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي ستتحملها الفئات الأكثر تأثراً وضرراً من خطورة ظاهرة التصحر؟
في هذا السياق سوف يتم تسليط الضوء على المحاور الاجتماعية المهمة والتي تعالج هذه التساؤلات والتي شملتها الإستراتيجية الوطنية للبيئة ومن أبرزها في هذا الجانب محور الرفاه الاجتماعي ومحور المشاركة المجتمعية لحماية البيئة، وتحليلها بأسلوب علمي تتفاعل فيه المنظومة الاجتماعية مع المنظومة الطبيعية لمكافحة التصحر وحماية المجتمعات المحلية.
محور الرفاه الاجتماعي
يعد الرفاه الاجتماعي حالة متقدمة يتم فيها تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمعات المحلية والتعايش باتزان، وتتميز هذه الحالة النهائية بالمساواة في الحصول على الخدمات الأساسية مثل الغذاء والمياه والسكن والخدمات الصحية والتعليمية وتشجيع الهجرة العكسية نحو الأرياف واستعادة النسيج الاجتماعي والحياة المجتمعية، وعلى الرغم من الجهود والإنجازات التي حققتها الدول في مجال الرفاه الاجتماعي على مختلف المستويات التشريعية والتنفيذية والمؤسسية إلا أن حماية هذه الحقوق هي عملية تراكمية الأثر ومستمرة، ولا تظهر نتائجها إلا بشكل متدرج وتظل دائما هناك تحديات تتعلق بتمتع الجميع بحقوقهم الأساسية على نحو متساوي.
قد تتأثر الاحتياجات الاجتماعية للأفراد في المجتمعات المحلية بالمتغيرات والظواهر الطبيعية كظاهرة التصحر والتي لم تترك أثاراً على المجتمع المحلي بصفة خاصة بل توغلت آثارها وامتدت لتشمل الأفراد و الفئات التي قد تتضرر من هذه الظواهر فالمزارعين ومربي الماشية والفئات الفقيرة في المجتمعات المحلية تتأثر بشكل كبير من التداعيات السلبية لهذه الظاهرة نظراً لما تسببه من جفاف الموارد المائية وتضرر المحاصيل الزراعية وتدني إنتاجيتها وتدهور المناطق الطبيعية وارتفاع معدل العواصف الغبارية وتلوث الهواء مما يؤثر على اتزان التنوع البيولوجي وموائله وغيرها من التداعيات السلبية. وفي هذا الإطار فإن توفير الرفاه الاجتماعي يحتل مكانة بارزة في رؤية جميع الدول، بل أنها ترى أن المفهوم الحقيقي لتوفير الرفاه الاجتماعي يكمن بالأساس في تمتعهم باحتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية التي تكفلها الدول للمواطن وتخص معيشته وصحته وتعليمه وعمله، فهي احتياجات لا يمكن الاستغناء عنها كما أنها تقع على عاتق الدول في توفيرها لمجتمعاتها المحلية.
التصحر وآثاره على الرفاه الاجتماعي
تؤدي ظاهرة التصحر إلى تغيرات مناخية شاملة على المدى البعيد وتنعكس تداعياتها سلباً على النظم الحيوية والطبيعية مما يؤدي أيضا إلى عواقب بيئية واجتماعية واقتصادية واسعة التأثر ولا يمكن التنبؤ بها ومن المتوقع تعرض بعض الدول وبشكل كبير لعدد من المخاطر والتهديدات البيئية الناجمة عن ظاهرة التصحر والتي تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وما يتبع ذلك من نقص في موارد المياه وتفكك التربة وتأثر الإنتاجية الرعوية والغابية والزراعية، وصعوبة زراعة بعض أنواع المحاصيل الإستراتيجية ، وتأثر الصحة العامة والأمن البيئي والغذائي، علاوة على بروز تأثيرات اجتماعية واقتصادية مصاحبة إذ ترتفع قيمة المنتجات الزراعية ويزداد التنافس على الأراضي الصالحة، هذا بالإضافة إلى الممارسات السلبية للمجتمعات المحلية حيال الري الاستهلاكي غير المستدام مما يؤثر على استدامة المياه في تلك الدول وينعكس ذلك سلباً على حجم ونوع الإنتاج الزراعي ومدى توفره للمجتمعات المحلية ومن ثم يزداد تأثرها وتبرز طبقة من الفقراء الذين لا يستطيعوا مواجهة نقص الغذاء وارتفاع أسعاره وبالتالي يحدث التفاوت الاجتماعي وعدم المساواة إن لم تتدخل الدول بتطبيق برامج الحماية الاجتماعية، وهو بلا شك عبئًا إضافي لأثر التصحر.
التحديات التي تواجه الرفاه الاجتماعي
في إطار تداخل الاحتياجات الاجتماعية مع الاحتياجات الاقتصادية والثقافية التي تحاول الدول توفيرها للمجتمعات المحلية تظل هنالك احتياجات اجتماعية متقدمة لا تستطيع بعض المجتمعات المحلية الوصول إليها أو تحقيقها وقد يرجع ذلك لمحدودية الإدارة التشاركية للمجتمع المحلي أو لقصور جهود بعض الدول في تحقيقها لذا فقد يركز المؤتمر على رصد أهم التحديات الناتجة من ظاهرة التصحر التي تحول دون وصول الفئات الاجتماعية لاحتياجاتهم المرتبطة بالأمن الغذائي والصحة والتعليم والعمل وغيرها من الاحتياجات، وبالنظر في جملة التحديات التي تواجه الدول في توفير الرفاه الاجتماعي للمجتمعات المحلية وبصفة عامة للفئات الفقيرة والأكثر تضرراً من انتشار الأزمات والأوبئة بصفة خاصة نجد كما أشرنا سابقاً تداخل وتشابك الاحتياجات الاجتماعية مع الاحتياجات الأخرى وبالتالي لا يمكن الفصل بينهما عند توفير الرفاه الاجتماعي بل اعتبارها كتلة واحدة (بيئية - اجتماعية - اقتصادية).
وقد تنتاب جهود بعض الدول معوقات لتحقيق الاحتياجات الاجتماعية لمواطنيها الأكثر فقراً على وجه الخصوص وقد يعزى ذلك لعوامل خارجية وعالمية مثل الأزمات الاقتصادية والسياسية والكوارث البيئية التي تعوق تحقيق خطط التنمية المستدامة وانعكاس آثارها على تقدم الفرد وتنميته وبالتالي الوصول لحقوقه الاجتماعية، كما يعزى أيضاً إلى الحاجة لإيلاء خطط الدول تضمين إستراتيجياتها هذه الجوانب الاجتماعية كي تحقق شمول هذه الفئات للحماية الاجتماعية ومراعاة احتياجاتهم الاجتماعية الملحة ضمن هذه الخطط.
محور المشاركة المجتمعية
هنالك احتياجات اجتماعية للمجتمعات المحلية تتمثل في مشاركتها في عمليات اتخاذ القرارات في القضايا التي تؤثر فيها ومشاركتها في عمليات تخطيط وتنفيذ وتقييم البرامج والأنشطة المرتبطة بحماية البيئة وتنمية المجتمعات المحلية، فالمشاركة المجتمعية هي تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في اتخاذ القرار والاستفادة من المعارف التقليدية في الاستدامة البيئية في مختلف جوانب حياتهم وبيئتهم المحلية والمساهمة في التعرف على المشكلات الحديثة التي تواجههم، حيث تعتبر المشاركة المجتمعية من الأساليب والتوجهات الأساسية التي تساعد على توظيف السلوك الاجتماعي الإيجابي للمجتمعات المحلية في مختلف مراحل بناء البرامج والأنشطة المرتبطة بمكافحة التصحر وحماية البيئة المحلية، وتساهم في تطور هذه البرامج والأنشطة وتساعد على الإبداع والابتكار والتمكن من الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة. إن مشاركة المجتمعات المحلية في مكافحة التصحر والمحافظة على البيئة المحلية هي من ضمن الاحتياجات الاجتماعية لكل فئات المجتمعات المحلية طالما لديهم القدرة على ذلك.
منهجية المشاركة المجتمعية لمكافحة التصحر
إن تفعيل منهجية المشاركة المجتمعية في مجال مكافحة التصحر والجفاف وإن كان محفوفاً بالدور الاحترافي إلا أنه من المهم التأكيد على جدواها وضرورة العمل بها، حيث أثبتت العديد من التجارب العالمية فاعلية هذه المنهجية، والتي تعتبر طريقة تعليمية مشتركة متبادلة مكثفة تهدف إلى تغيير الاتجاهات السلبية المرتبطة بمكافحة التصحر والجفاف وتنمية السلوك التفكيري والتنفيذي لدى المجتمعات المحلية من خلال ربط التفكير بالعمل، ويتم استخدام هذه المنهجية لتنفيذ مجموعة من البرامج والأنشطة بأسلوب تشاركي ومن أبرزها التثبيت الميكانيكي والحيوي للرمال والتربة وزراعة الشتول وحملات التشجير وإنشاء المشاتل وصون المحتوى المائي والتحول لأنماط التربية الحيوانية الحديثة ووقف الرعي فوق طاقة المراعي والاحتطاب الجائر وترشيد المشاريع التنموية وغيرها من الأنشطة المرتبطة بمكافحة التصحر والجفاف. وهنالك تحديات متعددة تواجه تنفيذ تلك البرامج والأنشطة ومن أبرزها المساحات الشاسعة لبعض الدول والمشكلات المرتبطة بتخطيط وتنفيذ البرامج والأنشطة الممنهجة وتأهيل الكوادر المحلية وتوفير التمويل اللازم.
الخاتمة
تتمثل أهمية استضافة المملكة العربية السعودية لمؤتمر الأطراف لمكافحة التصحر في تبنيها لخطاب عالمي مشترك يوجه نحو التصدي لظاهرة التصحر وتداعياتها السلبية على الإنسان والبيئة والبحث عن حلول شاملة باستخدام منهج علمي مشترك تتفاعل فيه المنظومة الاجتماعية مع المنظومة الطبيعية، لذلك فأن الحلول ستولي جانباً مهماً لمراعاة البعد الاجتماعي والتركيز على معالجة الأضرار التي لحقت به من جراء ظاهرة التصحر كما ستراعي الحلول مقدار الضرر وتحمي من تكرار حدوثه. كما ينبغي الإشارة إلى النهج الذي تبنته الوزارة ممثلة بوكالة البيئة في مؤتمراتها السابقة وهو التركيز على الحلول المبتكرة التطبيقية لتعزيز البيئة وما يرتبط بعمليتي الرفاه الاجتماعي والمشاركة المجتمعية لحماية البيئة والتركيز أيضاً على النظر إلى الفئات الأكثر تضرراً للتداعيات السلبية لهذه الظاهرة عالمياً، وتقليل التكلفة الاجتماعية/ الاقتصادية الناجمة عن هذه التغيرات.
وختاماً يتضح لنا مدى أهمية هذا المؤتمر العالمي وتركيزه على محاور حماية البيئات وتعزيز الاحتياجات الاجتماعية ومراعاة البعد الاجتماعي المطلوب في تجارب الدول المختلفة وخططها نحو مواجهة التغيرات المناخية وذلك من خلال توسيع برامج وأنشطة الحماية الاجتماعية وتوفير فرص عمل بديلة وأساليب تشاركية مبتكرة لتحسين المستوي المعيشي للفئات الأكثر تضرراً وتقليل معدلات الفقر والهجرة القسرية والبطالة وضمان جودة الحياة واتزان المناخ.
** **
د. صالح بن محمد الصغيِّر - أستاذ علم الاجتماع البيئي