عبدالوهاب الفايز
تعددت التعليقات على مخرجات قمة بريكس (مجموعة البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) سواءً من الحكومات المشاركة في المجموعة أو من الدول التي تمت دعوتها، وكان الأهم في تصوري والذي يعنينا هو حكمة القرار السعودي ردًا على دعوة الانضمام، ويطمئن على أن نهج المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يحضر دائمًا في جميع المواقف.. وهو نهج معروف للأصدقاء وللأعداء.
السعودية في ردها على دعوة الانضمام قالت إنها سوف (تدرس دعوة «بريكس» للانضمام إليها، وإنها ستتخذ القرار المناسب). هذا هو روح ومنهج الملك المؤسس، التريث وتدبر الأمور بالذات في الأمور السيادية المصيرية التي يترتب عليها التزامات سياسية واقتصادية تمس مصالح الشعوب، والأهم أن الأوضاع السياسية العالمية المضطربة قد تحجب الرؤية الواضحة، كما أن البيئة الإقليمية السياسية أيضًا تحفها المحاذير نتيجة إقبال الدول الكبرى - المتضاربة في المصالح والأهواء - على الخليج العربي.
إذًا نعود للتاريخ الحديث، لاسترجاع الدروس، سوف نجد أن الفترة التاريخية بين عامي 1915 و1927 كانت حقبة مهمة شهدت صراعات في مختلف أنحاء العالم، أبرزها قيام الحرب العالمية الأولى. كذلك الجزيرة العربية كانت تمر بمرحلة انتقالية مهمة في تاريخها. أثناء الحرب العالمية الأولى، اتخذ الملك عبدالعزيز موقف الحياد، بين بريطانيا والدولة العثمانية. وبعد انتهاء الحرب الكونية، توسع نفوذ بريطانيا في المنطقة العربية أكثر من السابق. وهنا اتضحت حكمة الملك عبدالعزيز ورفضه للإسراع في الانحياز إلى طرف دون آخر، فالمحور الألماني العثماني الذي تشكل لمحاربة الغرب خسر الحرب، ومعه نفوذه وتأثيره.
وهذه العودة القوية لبريطانيا العظمى لم تمنع الملك عبد العزيز من أمر حيوي وخطير وهو اتفاق امتياز استكشاف وإنتاج النفط مع أمريكا. هنا إنحاز الملك عبدالعزيز لمصالح بلاده. فالمصلحة العامة كانت ترى المضي مع العرض الأمريكي الجريء مقابل تمنع وتحفظ بريطانيا تجاه المساعدة في هذا الأمر. وهذا كان من بين الدروس العديدة لمنهج الملك المؤسس في التعامل مع القضايا الكبرى.
فالملك عبدالعزيز تعلم كيف يتحرر من سياسة المحاور، وفي المعاهدات والاتفاقيات الدولية والإقليمية كان حريصًا على ألاَّ يضع بلاده رهنا لأية مصالح خاصة بدول، ولا يُحمّل بلاده تبعات مستقبلية، ولا يُعرض مصالح جيرانه أو أمته للمخاطر. وسياسة الحياد بذكاء وفطنة مكنت الملك عبد العزيز من تحقيق ما يتطلع اليه، فقد طمأن بحياده في الحرب العالمية الأولى بريطانيا التي كانت تخشى من اتجاه الحكومة السعودية نحو طرف معين في الحرب، فيما ضمن الملك المؤسس لبلاده النجاة من المشاكل السياسية التي قد تتعرض لها في هذه الصراعات الدولية.
والدول، بالذات العظمى، طبيعي أن تجد نفسها في مأزق حقيقي تجاه المحاور والتحالفات بين الحلفاء والأصدقاء. وأمريكا تكاد تكون حاليًا في هذا الموقف. وهذا الوضع استقطب آراء خبراء العلاقات الدولية والمؤرخين للقوى العظمى، فقد نشرت في الأيام الماضية العديد من المقالات والتعليقات على الموقف الأمريكية، وكان السؤال المطروح للتحليل هو: كيف تتصرف أمريكا مع حلفائها وأصدقائها؟ وأهم هذه التعليقات وجدتها في مقال عميق نشره مارك كاتز، أستاذ الحكومة والسياسة في جامعة جورج ميسون الأمريكية، في المجلة المتخصصة (ذا ناشونال انترست، 24 أغسطس الجاري).
أشار كاتب المقال إلى أن الولايات المتحدة ليست أول قوة عظمى عالمية تواجه مشكلة قيام التحالفات. واسترجع حالة واجهتها الإمبراطورية البريطانية في عز قوتها في القرن التاسع عشر. وهنا استرجع كلمة (اللورد بالمرستون، أحد رجال الدولة البريطانيين الرائدين، والذي كان الشخصية المهيمنة في تشكيل السياسة الخارجية البريطانية من عام 1830 حتى وفاته أثناء توليه منصب رئيس الوزراء في عام 1865).
وبالمرستون هو صاحب القول المشهور: (ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء دائمون. مصالحنا أبدية ودائمة، وتلك المصالح من واجبنا أن نتبعها).
وجاء هذا القول المأثور في العلاقات الدولية في خطابه أمام البرلمان في 1 مارس 1848. في هذا الخطاب المطول، كما يقول كاتز، (وضع بالمرستون العديد من المبادئ التوجيهية حول كيفية قيام القوة العظمى بالسياسة الخارجية بشكل عام ولكن بشكل خاص عند التعامل مع الحلفاء الذين لا يدعمونها). وينصح واضعو السياسات الخارجية الأمريكيين تبني مبادئ مماثلة.
ويقف كاتز عند مفارقة غريبة يراها في المواقف الأمريكية. يقول: (في حين يبدو أن الكثيرين في الولايات المتحدة يلتزمون بفكرة أن البلدان الأخرى إما أصدقاء أبديون أو أعداء دائمون، فإن العديد من حلفاء أمريكا أنفسهم يتبعون، بدلاً من ذلك، مبدأ بالمرستون المتمثل في إعطاء الأولوية لمصالحهم على الصداقة مع الولايات المتحدة). وهنا يرى الكاتب أن (واشنطن يجب عليها أن تتبنى النهج نفسه - ليس «تعليمهم درسًا»، ولكن لأن هذا النهج معقول).
ويستطرد: (مثل حلفائها، يجب ألا تمتنع الولايات المتحدة عن التعاون مع خصومها عندما ترى واشنطن أن هذا في مصلحة الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن تمارس الصبر عندما لا يتفق حلفاؤها معها حتى في بعض القضايا المهمة طالما أن هناك قضايا مهمة أخرى يمكن أن يستمر فيها التعاون المشترك أو يتحقق. باختصار، تحتاج أمريكا إلى اتباع سياسة بالمرستون الخارجية التي تتجنب رؤية العالم من حيث الحلفاء الأبديين والأعداء الدائمين، ولكنها تركز بدلاً من ذلك على تحديد وإعادة تقييم حيث تتلاقى المصالح الأمريكية وتتباعد مع مصالح الحكومات الأخرى في المستقبل).
ويرى الكاتب أن السياق الذي جاءت فيه كلمة رجل الدولة البريطاني تقارب الحال الآن. فـ (السياق الذي ألقى فيه بالمرستون خطابه عام 1848 أمام البرلمان. شهد هذا العام عددًا من الاضطرابات الثورية الكبرى في جميع أنحاء أوروبا. أيضًا فيه حدث الصراع والتغيير في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، بما في ذلك آسيا والشرق الأوسط وأمريكا الشمالية).
والذي نجده من سياق الأحداث في المنطقة في السنوات الماضية، يؤكد أن بلادنا تمارس النهج السياسي الذي وضعه المؤسس -رحمه الله- خصوصًا الأسس والمبادئ الواضحة أخلاقيًا وسياسيًا. وهذا هو الذي يساعدنا على المرونة الإستراتيجية وبناء علاقاتنا بالتكتلات الدولية بما يضمن الحياد الإيجابي، وبما يخدم مصالحنا الوطنية، فلنا علاقات تعاون وصداقة إستراتيجية واضحة مع جميع الأطراف. وهذا هو الذي أعاد العلاقات مع إيران. إنه صدق النوايا.
أخيرًا نقول.. إننا في مرحلة تتطلب ممارسة فن الحياد والوسطية والاعتدال، وهذه أمور صعبة يتصدى لها فقط أولوا العزم من الرجال والدول. نحن لسنا بعيدين عن دول تواجه ظروفًا صعبة، وتؤثر على مصالحها غياب الحكمة السياسية، والنظرة البعيدة للأمور. الحمد لله أن قادة بلادنا يركزون جهدهم على تحقيق مصالحنا العليا السياسية والاقتصادية، وهذا هو المهم، فالمنطقة لم تستقر أمورها وهي مقبلة على تحديات صعبة.
والسؤال الذي يخدم مصالحنا: لماذا لا يكون لنا تحالف مع الدول المشاركة في مجموعة العشرين مثل إندونسيا وتركيا، والتي لم تدع إلى مجموعة بريكس؟ تأملوا سيناريو هذه المجموعة. السعوديه وتركيا وإندونيسيا دول محورية في الجغرافيا السياسية والاقتصادية، تجمعها ظروف وعوامل متقاربة، ويمكن أن توجد خيار للقوة السياسية التي تخدم مصالحها. هنا نجعل عضوية السعودية في بريكس مصدرًا لتقوية المجموعة، وأيضا وهو الأهم: (تحوطًا) للمخاطر السياسية التي قد تبعثها المصالح والمخاوف المدفونة بالنفوس.