«ليس مهماً أن تكون مستقيماً المهم أن تبدو دائماً مستقيماً»
من الصعب بعد قراءة «الأمير» أن لا نوافق كريستيان قودان Godin إذ يقرّر في كتابه «دروس الفلسفة» أن ماكيافيل هو أوّل من فكر في السياسة بعيداً عن تحتيّاتها اللاهوتية والأخلاقية. فدانت Dante المتحمس قبله للفصل بين السلطة البابوية والقيصرية لم يتخيّل السياسة بمعزل عن مقدّماتها الميتافيزيقية والأخلاقية.
الجديد والفارق في تاريخ التفكير السياسي والذي دشنه ماكيافيل هو الانتباه إلى أن فاعلية السياسة ونجاعتها مقدمة عن أية قيمة أخرى.
كاتب «الأمير» بالنهاية لا يرفض الأخلاق ولا يبخسها بل ببساطة يؤكد أنّها وسيلة بيد الحاكم قد يستعملها لإنجاز ما يريد وقد يتخلّى عنها إذا تعارضت مع مطلوب الحاكم واختياراته السياسية.
يمكن أن تكون الاستقامة مذمّة في عرف السياسة المهم بالنسبة للفاعلية أو النجاعة السياسية أن تبدو دائماً مستقيماً وهكذا ومنذ نصص ماكيافيل على هذه «القاعدة» أو البديهة عنده رماه تاريخ الفلسفة بقسوة وعنف وفي تقديري بتسرع في أخدود السينيزم والصفاقة السياسية.
فماكيافيل بفصله المنهجي بين الأخلاق العامة وأخلاقيات السياسة l›éthique أسس - في تأويلي المتواضع - للتفكير في السياسة بعيداً عن مقدّماتها القيمية كفكرة الخير العام وتالياتها المتصلة بأفكار الأمن والسلم الاجتماعي والعدالة والمدنية، ماكيافيل بفصله بين (الأخلاق والأخلاقيات) la morale et l›éthique قد اخترع في تقديري فكرة المجال السياسي التي اشتغلت عليها العلوم السياسية في مرحلة تالية. ويمكن الادعاء دون أن يطوّح بنا التأويل بعيداً عن الحقيقة أن فكرة الرأي العام التي اشتغل عليها علم الاجتماع السياسي من بوردييه إلى راولز هي اختراع ماكيافيلي طريف وعميق مهّدت لولادة ديمقراطية الرأي العام كمحصلة تراكمية لانتقال الديمقراطية من التمثيلية ومن ثمة إلى التشاركية وصولاً إلى ديمقراطية الرأي العام التي تقف اليوم على حدّ ولادة الإنسان التواصلي بتعبير هابرماز كأفق للتحرّر من فكرة التمثيلية أو النيابية التي كانت مدار فلسفة الأنوار والعقد الاجتماعي.
مفارقة بحجم السماء أن نعثر على آثار لأقدام ماكيافيل على أرضية أنثروبولوجيا التفاؤل التي يمثلها فلاسفة العقد الاجتماعي والمتمحورة حول المقدمة التي تقول إن»الإرادة العامة لا تخطئ» وأن السياسة كلما كانت تعبيرا عن الإرادة العامة، جسدت فكرة الخير العام.
سبينوزاوهيغل وماركس ونيتشه على ما يستنتج (قودان) إذ يقرّرون أن الأخلاق هي التي تخضع للسياسة وليس العكس فلا توجد قيم أخلاقية تدعو إلى الحرب هذا في حين أن السياسة ببساطة نوع من الحرب، والحرب على قول شهير لأحد الجنرالات الروس ليست سوى امتداد السياسة.
فهيغل حين يركّز على أن السياسة تجاوز للأخلاقي وإنجاز للقيمي يستقر بالنهاية والنتيجة في محضن الماكيافلية.
تتحدث اليوم العلوم السياسية عن البراغماتية Realpolitik كنموذج للفاعلية القصوى لإستراتيجيات السياسة، فتشرّع بالنهاية للفصل المنهجي الذي أسس له ماكيافيل بين الأخلاق وأخلاقيات السياسة.
يريحنا ماكيافيل بهذا الاختراع المقلق من صداع السجال الحادّ منذ الإغريق حول علاقة الأخلاقي بالسياسي، فالسياسة إذا فكّرنا فيها كمجال مستقل تنتج أخلاقيّاتها الخاصة المشدودة لغاية النجاعة والوصول بالأسهل والأنجع لتحقيق الأقصى من أهدافها وفي هذا لا تلتفت للأخلاق بل تصاحب القيم في رحلة بحثها الدائم عن الأنجع في إنجاز المطلوب.
مارلو يبدو في الظاهر بعيد عن ماكيافيل عندما يقول أننا لا نمارس السياسة بالأخلاق ولكن لا نفعل الأفضل إذا استبعدناها، فالنجاح السياسي ليس دوما نصرا فكم من هزيمة في السياسة والحرب خلّدها التاريخ كعناوين للمجد والانتصار فالذاكرة الإنسانية خلدت أسماء مهزومة بحساب السياسة والحرب على أنّها منتصرة ببطولة في حساب التاريخ. فعلي ابن أبي طالب انهزم أمام معاوية ولكنّه خلد كبطل في المخيال الإسلامي وكذلك جان دارك وتشي غيفارا وغيرهم من الأبطال الذين ألهموا وما زالوا شعوبا وأمما هم في الحقيقة منهزمون في حروبهم وفاشلون في سياستهم.
وهكذا يتذكّر الأوروبيون سبارتاكوس ولا يعرفون اسم الضابط الذي قتله.
الإنجازات الكبرى التي عرفها تاريخ الأمم تأسست على أحلام كبيرة ولكن ذلك لا يشرّع لبناء السياسة على الحلم هنا يتدخل ماكيافيل بعنف ودون أذن لينتزع بقسوة السياسة من اليوتوبيا والمثالية ويقلص للأقصى أفق المغامرة في الفعل السياسي ويؤسس للواقعية والنجاعة كقيمة عليا للفكرة السياسية التي تتحول إستراتيجية ضمن رؤية أوّلاً ومشروع ثانياً ومؤسسة جماعية ثالثاً وأي تجاوز للقيمة ضمن هذا المسار لا يكتسب مشروعيته إلّا إذا كان لحساب قيمة أفضل.
لا يمكن الحديث عن السياسة دون مشروع أي بالنهاية من دون إخضاع الزمن الاجتماعي لقيمة إنسانية نبيلة من مثل النهوض والتقدم والسيادة والمجد.
هنا منطقة الاندماج بين السياسي والقيمي وماكيافيل في تأويلي يوفّر الأجندة الأكثر وضوحا لقدرة السياسة على إنجاز الأقصى من مطلوب القيمة وليس من مطلوب الأخلاق.
الأكثر واقعية في السياسة لا يعني أنّه الأقل مثالية. هنا قد نسعد وقد نغضب من فتح الباب للدين ليدخل على جلالة السياسة ولكن الأكيد سنشقى بمنطقة استفزاز جديد لامتداد سجال الأخلاقي والسياسي لنعود إلى سؤال البداية في علاقة الدين بالسياسة.