د.عبدالله البريدي
نظرة جديدة تلك التي جاء بها أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد «بيتر فرانكوبان»، حيث يذهب في كتابه المهم «طريق الحرير» إلى أن لكل حضارة أو إمبراطورية كبرى طريقها الحريري الخاص بها، مقرراً نتيجة خطيرة، تتمثل في: أن الحضارة أو الإمبراطورية تنهار إذا تهدم طريق حريرها، وجهد لتأسيس الأدلة وبيان الشواهد على صحة هذه النتيجة، في كتاب ناهزت صفحاته 700 صفحة، وهو من ترجمة: المؤرخ المفكر والمترجم المكين الدكتور أحمد العدوي الذي نقل النص بلغة عربية مبينة مشرقة عبر قوالب ترجمة احترافية تظهر النص كما لو كان مؤلَّفاً بالعربية، وهذا مما لا يطيقه إلا الكبار شأن العدوي، مع تعليقات نفيسة وتنبيهات دقيقة له في أجزاء متعددة في النص، ويعد ذلك من مهام المترجمين الرصان.
وقد كان الكتاب لافتاً جريئاً في عنوانه الفرعي: «تاريج جديد للعالَم»، ومفاد هذا أن مؤلفه يتوخى العثور على ملامح جديدة في أضابير التاريخ وفي طرقات الحرير المهترئة! ومما يمتاز به الكتاب أن المقاربة التي لاذ بها المؤلف ليست انطباعية أو إنشائية، حيث عمد المؤلف إلى استحلاب عشرات الدراسات المتخصصة القديمة والحديثة، بجانب إيراده لباقة من المسلمات أو أشباه المسلمات الشائعة في الأدبيات، واجتهد في تناولها وبيان مدى صوابيتها من وجهة نظره، ساعياً إلى إقامة الأدلة والشواهد على صحة ما ذهب إليه بإزائها، ومن تلك المسلمات الفكرة الشائعة التي تقرر بأن نهضة أوربا قامت على الروح الإغريقية القديمة، مؤكداً أن هذه النهضة ما كان لها أن تتأسس إلا بعد انفتاح الإنسان الأبيض على ثقافة الشرق واختطافه لثرواته ولثروات «العالم الجديد»، وقد مزق بذلك فرانكوبان خرافة المركزية الغربية «المتوهمة» بمختلف تمظهراتها؛ وفي كل هذا دلالة جيدة على أننا قبالة نص برهاني أو لنقل: نص يسعى إلى أن يكون برهانياً، مما يجعله ضمن الدراسات العلمية النقدية الرصينة.
صدر هذا الكتاب في 2015، وقد أثار ضجة كبيرة على مستوى العالم، وانتزع مكانة عالمية كبيرة، بدليل ترجمته إلى أكثر من 30 لغة، بجانب اهتمام النخبة السياسية في عدد من الدول المحورية الصاعدة في العالم كما في الصين، وإقراره ضمن برامج التوعية الشعبية العامة كما في باكستان، بجانب بيع أزيد من مليون ونصف نسخة منه، وينضاف إلى ذلك استعراض كبار الصحف والمجلات في العالم. وهذا النص يمثل ما يمكن وصفه بأنه «المؤلف العابر للاهتمامات»، فمؤلفه هو أستاذ مرموق في جامعة عريقة (خريج كامبردج ثم أكسفورد)، وهو أيضاً رجل أعمال متمرس له «طريقه الحريري الخاص»، بجانب كونه رياضياً وصحافياً، فضلاً عن كونه كرواتياً من جهة الأصل وربما التفكير وبريطانياً من جهة الدراسة والعمل والجنسية؛ ومن يقرأ الكتاب يدرك تأثير مثل هذا العبور والتمازج على التقاط الوقائع التاريخية وتحليلها واستخلاص النتائج. ولهذا كله، اغتبطنا كثيراً بنقل هذا النص النفيس إلى العربية، وقد كان ذلك عبر المؤسسة الثقافية السعودية الرائدة، فكراً وممارسة، تأليفاً وترجمة، نشراً وتوزيعاً، وهي مؤسسة أدب، بقيادة المبدع الدكتور عبدالله السفياني، وفريقه الرائع.
ويقع هذا السِفر - طبقاً للوصف الدقيق للمترجم - في 25 فصلاً ، وقد وضع المؤلف لافتة جاذبة للقارئ على كل فصل ترشده إلى طريق حرير ، ومنها: «طريق الإيمان»، «الطريق إلى الشرق النصراني»، «طريق الرق»، «طريق الذهب»، «طريق الفضة»، «الطريق إلى شمال أوربا»، الطريق إلى الإمبراطورية»، «طريق القمح»، «طريق الحرير الأمريكي»، «طريق التنافس بين القوى العظمى»، مختتما طرقه بـ «الطريق إلى الكارثة»، «الطريق إلى المأساة» !
وقد غطى فرانكوبان بفصوله العصور القديمة المتأخرة، مبتدراً بنشأة الإمبراطورية الفارسية، وماراً على فتوحات الإسكندر المقدوني ونشأة طريق الحرير، ومعالجاً الصراعات بين الأدبيات الكبيرة الشائعة «صراعذاك» شاملة البوذية والزرادشتية (المجوسية) والنصرانية. ثم يرتحل بنا المؤلف إلى طريق الحرير فيما يسمى بـ القرون الوسطى، مسلطاً الضوء على التغيرات البنيوية التي عصفت بطرق الحرير آنذاك من جراء الصراع المرير بين: الفرس والروم؛ مبرزاً بعض آثار انبلاج الإسلام في مسرح التاريخ العالمي، ومظهراً مشهد بزوغ مملكة الخزر واسكندنافيا ودويلات المدن الإيطالية، ولم يخلُ تحليله النافذ من إشارات إلى الحروب الصليبية وآثار المغول في الباحة العالمية.
وقد أشار في معرض هذه الفصول إلى حركة الكشوف الجغرافية التي صبغت وجه التاريخ بطلاء الإنسان الأبيض، وتحديد الأوربي الغربي، حيث أضحى هذا الجزء الصغير من القارة العجوز «مركزاً» للعالم، مستعرضاً تجارة الرقيق على أيدي البرتغاليين والإسبان، وكيفية نشوء طرق حرير جديدة بعد اكتشاف (أو نهب) الأمريكتين، منبهاً على دور حركة الكشوفات الجغرافية في ظهور قوى بحرية جديدة كالإنجليز والهولنديين على حساب البرتغاليين والإسبان الذين وقعوا في حبائل الديون المغرقة!
وقد عبر بنا المؤلف في فصوله الأخيرة صوب التاريخ المعاصر، مركزاً على فترة شبوب الحرب العالمية الثانية، وحتى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان؛ منهياً هذا الكتاب بخاتمة مطولة ذات نزعة تنبؤية، حيث ذهب إلى تقرير نبوءة عودة الدول المطلة على طرق الحرير لممارسة دور تاريخي ريادي جديد، بما فيها الصين في الفترة القريبة القادمة. هذا استعراض مجمل لهذا السفر الكبير، وإنه لجدير بقراءات ونقاشات وأبحاث تحليلية نقدية مطولة من قبل المختصين في التاريخ وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وتاريخ الأفكار ونحوها، ومن الطبيعي أن يحوي نص كهذا العديد من الآراء والاستنتاجات غير الصحيحة أو غير الدقيقة أو غير الملائمة. وأحسب أن في اجتراح فرانكوبان لفكرة يراها ملائمة لتقديم تاريخ العالم بطريقة جديدة، ما يلهم المتخصصين على خوض تجارب مماثلة، فمن يصنع لنا مسرحية جديدة لتاريخ العالم؟!
** **
- كاتب وأكاديمي سعودي