(1)
هبط الليل على الصحراء...طواها لساعة حتى تمكن السواد منها.. انسكب نهر القمر، فارتفعت رؤوس الخيام... ومن بين رؤوس الظلال تسلل ظلٌ يراوغ الأوتاد.
راوغ الظل ظله حتى ابتعد عن الظلال بعيداً... كان ظلاً لأنثى قد غادر حمى القبيلة ثم آوى إلى ظل جبل بالكاد ينسكب على سفحه المتخم بأقدام الشوق...
انحنى ظل الأنثى...التصق الظل بالأرض ... تمددت تماماً... أصغت جيداً..
- لقد أتى...
جهرتْ بذلك تبشر الطير في صدرها حين استقامت فجأة حتى لامست القمر.
تتابع أصوات طرق الأرض إلى قلبها... ثم أصبح التتابع تواتراً... كانت حوافر الخيل تطرق قلبها، بينما كانت عيناها تراوغ العتمة ...
في قلب البيداء كان ظل جواد يطوي الأرض ويراوغ أنهار النور حتى سفح الجبل... ترجّل ظل من على ظهر الجواد فعانق ظلاً برز دون سفح الجبل...
سألته ولم يرتوِ ظلها من ظله بعد:
- هل رآك أحد؟
طمأنها وقد شخص بصره إلى السماء:
- باستثناء النور الذي كنت أراوغه، لا أحد.
- ولم تراوغ النور؟
تدفق تذمرٌ من صوته وهو يستطلع:
- أمازلت غاضبة؟
التصق ظهراهما بسفح الجبل... أمسك الظل بيدها ثم انهمرا جالسين.
تهامس الظلان ساعة.. ثم تحرك ظله نحو ظل خيل على مرمى حجر... حمل متاعاً ثم عاد إلى مجلسهما... ارتفعت يده بقربة ماء حتى التصقت بفمها...
غادر فم القربة فمها... قبض على حفنة تراب، ثم ارتفعت يده إلى الأعلى... حرر التراب من قبصته شيئاً فشيئاً..
- ماذا تفعل؟
- أحرر التراب.
- تشعوذ.
ضحك... أخذ القربة من يدها... لثم فم الماء... ثم سكبه على التراب المحرر.. قال: - سأوقد ناراً كي أراك.
- ستشي بنا.
طمأنها:
- نحن أبعد من التراب.
تململت من عودته إلى الألغاز... حتى توهج وجهها في مواجهة سنا النار.. امتد ظل حتى لامست أنامله الوجه المتوهج.
- صنعت لكِ شيئا.
- شعوذة؟
ضحك... التفت إلى متاعه... أخرج منه شيئاً...
- ماهذا؟
سألته بفضول فأجاب:
- جلد ماعز يكسو خشبة، ووتر...
- ثم ماذا؟
لم يجبها, بل أخرج من متاعه قوساً...
حلّ الصمت لترقب الآتي ... تأمل وجهها ... ثم تحرك ظل القوس نحو الوتر الذي يتوسط جلد الماعز الذي تفوح منه رائحة الدباغ.. وحين التقى القوس بالوتر صدر صوت عذب...
شهقت... هرعت أناملها إلى صدرها... ثم إلى جيبها ... ففمها ... مازال القوس يتقاطع مع الوتر، ليعلو صوت الدهشة.
- ما أعذبه.
كان ذلك التعبير الوحيد الذي أفلت من فمها... ثم تواترت أفواه الدهشة، ومازال الوتر يتحدث...
وحين انتهى سألته:
- ماهذا الشيء؟
- ابتكرته من أجلك.
ارتمت ممتنة في أحضان الظل، ثم سألته مرة أخرى:
- أليس له اسم؟
انفك التحام الظلين إلا من أناملهما ثم أجاب:
- سأسميها باسمك.
- وهل هي مؤنث؟
فكر طويلاً ثم أجاب:
- كل جميل أنثى!
انقضت ساعة.. وحين حان الوداع حمل متاعه إلى جواده.. وبينما هم الظلان بالعناق سألته:
- متى أراك؟
أجاب على عجل:
- حين يزهو بك القمر.
التحم الظلان لثوانٍ, ثم افترقا.
(2)
بعد أيام تعامدت الشمس على رؤوس الخيام...تحرك ظل أنثى بينها...حتى انتهت قدما الظل إلى خيمة منبوذة.
سألت مضيفتها:
- ماذا يقول الودْع هذه المرة؟
لم تجبها المرأة العجوز بل سألتها متذمرة:
- ألا تكفين عن تتبع قدرك؟
دست قطعة معدنية في صدر العجوز... أخرجتها... تأملتها.. ثم امتدت يدها إلى صرة.
فتحت العجوز الصرة ثم نثرت الودْع على الأرض... تأملت الخرزات البيضاء... تحسست تجاويفها... نظرت إلى الفتاة، ثم أعادت الكرة... انهمر الودْع...مرة ثانية فثالثة... ثم ارتفع رأسها إلى رأس الفتاة ليحل صمت طويل... تجرأت وقالت:
- كل منتصف شهر ستكون الخرزة البيضاء وحيدة.
(3)
حل منتصف الشهر فتسلل ذات الظل في موعده لكن الظل الآخر لم يكن على الوعد... شهر آخر، ثم ثانٍ فثالث, ثم تتابعت الأشهر حتى تمام العام... ومازالت أقدام الظل لا تخلف الموعد ولا تنكث بالوعد...
اعترضتها أماني رجال القبيلة، وقصائدهم، وجيادهم، وبطولاتهم... لكنها كانت منقطعة إليه...
(4)
مضت السنون, وتتابع الدهر, ومازال الظل يتردد على المكان حتى أصبحت خطاه ثقيلة.. ثم بدا للظل اعوجاجٌ في ظهره... وذات ليلة امتلأ فيها السماء بالقمر كان الظل يتقدم بخطى متوجة بالذبول... توقفت الخطى المتعثرة فجأة حين أشرقت السماء بصوت سمعته لمرة واحدة فقط قبل ستين عاماً...
سقطت... زحفت... نهضت... سقطت...
حتى بلغت سفح الجبل فتوقف الصوت فجأة ليهرع لها صبي كان قد اتخذ من سفح الموعد مبيتاً... أعان قدميها حتى رمت حمولتها دون السفح...
سألته بصوت ذابل:
- من أنت؟
- أنا راعٍ فرّ من الناس.
- أي ناس؟
- الناس الذين كنت أجيراً عندهم.
- ومن أنت ياجدة؟
لم تجبه بل سألته مستغيثة:
-من أين لك هذا؟
أشار ت بيدها نحو الآلة التي كان يعزف عليها.
- من الأعمى.
كادت روحها أن تغادر جسدها فتجلدت وسألت:
- وأين الأعمى؟
أجابها بحذر:
- لقد مات...
نظرت إليه ثم صمتت طويلاً.. تحاملت على أوجاعها ثم نهصت وسألت:
هل لهذه الآلة اسم؟
تحسس الطفل الوتر بسبباته اليمنى, ثم أجاب:
- اسمها «ربابة».
... ثم مضت.
** **
- فيصل الهذلي