شهدت علاقة الدراسات الأدبية بعلم التاريخ، ومختلف العلوم الإنسانية تقلبات عديدة منذ القرن التاسع عشر الميلادي، فبعد مرحلة من التأثر والمحاكاة، كان الحافز فيها أن يكون البحث الأدبي مستفيداً من التصورات المنهجية والتطورات العلمية في العلوم الإنسانية، ابتعد الباحثون في الآداب ولا سيما مع الشكلانيين الروس، ثم مع النقد الجديد في الإنشائية الفرنسية، عن مختلف الرؤى والمناهج التي لا ترى في الأدب إلا صورة لما هو خارج عنه، وترسخت شيئاً فشيئاً طرائق في البحث تنظر في الإبداع الأدبي وحده دون اهتمام بما هو خارج عنه، فانقطعت العلاقة بالمرجع أو كادت، واستُبعد الكاتب والمجتمع والتاريخ استبعاداً منهجياً، فلا إحالة في النص الأدبي إلا على ذاته، ولا مرجعية في السرد الأدبي غير المرجعية التخييلية التي ينشئها صاحب الأثر الفني.
ولكن هذه الرؤى التي بلغت أوجها مع الإنشائية الفرنسية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لم تستطع حجب مسائل شائكة، مثل موضوع المبدع في نصه، ومنزلة النص ووظيفته الفكرية والاجتماعية، وعلاقته بالمتلقين والقراء، وبالوقائع السياسية التي أنتجته، وبآفاق التلقي والتداول. ولعل ما سرّع إعادة هذه المسائل إلى التفكير والحوار أن اللسانيات التي كثيراً ما استندت إليها الإنشائية البنيوية قد شهدت تحولات خطيرة في إطار لسانيات التلفظ، وتيارات التداولية، وتحليل الخطاب؛ منطلقها الانتباه إلى علاقة الملفوظ بالمتلفظ ووضع التلفظ، وتأثر الخطاب بمقاصد المتكلم، وبمختلف عناصر المقام والسياق.
ولقد كان للمنعطف اللساني في القرن العشرين أثر كبير في دراسة علاقة النصوص الأدبية بالنصوص غير الأدبية من جهة، وعلاقتها بمختلف أنواع الكتابة والتفكير من جهة أخرى؛ فاتسع مفهوم الأدب ليشمل كل أنماط الخطابات التي أنتجها الإنسان في التاريخ.
وعندما تجدد الدرس المنهجي في سبعينيات القرن الماضي، كان التاريخ من بين أجناس النصوص والخطابات التي شملها النظر والتحليل من السيميائيين والتأويليين والمحللين النفسانيين والمؤرخين؛ فتجددت بذلك قراءة النص التاريخي بوصفه كتابة أدبية تقوم على التمثيل والنسج والتصوير.
وكان رولان بارت (Roland Barthes) من أوائل الباحثين الذين أبرزوا الطابع الأدبي للتدوين التاريخي، ثم تبعه مجموعة من الباحثين كان من أبرزهم هايدن وايت (Hayden White) الذي ربط بين القصص الأدبي، والتمثيل التاريخي، فتناول الكتابة التاريخية بوصفها خطاباً أكثر منها علماً، ففي الخطاب التاريخي يعمل السرد على تحويل قائمة من الأحداث والوقائع إلى قصة متماسكة، كانت ستظل دون السرد أخباراً متناثرة لا معنى لها.
ويرى هايدن وايت (Hayden White) أن الكتابة التاريخية إنتاج لملفوظات إنجازية ذات طبيعة بلاغية، يظهر وقعها في البناء المذهبي (الأيديولوجي) للحقيقة، فالعنصر السردي الذي تضيفه الكتابة التاريخية إلى الحقيقة التاريخية، إنما هو ضرب من التصوير الذي يصبو إلى تحقيق التماسك الفني للخطاب التاريخي.
ومع بول ريكور (Paul Ricceur) أصبح التاريخ من بدايته حتى نهايته كتابة أدبية، فالحبكة هي التي تجمع بين الكتابة التاريخية، والكتابة الأدبية، فهي عنصر مشترك بين الحياة الإنسانية والسرد القصصي.
ويرى بول ريكور (Paul Ricceur) أن عملية التأليف بين الحياة والقصص في الكتابة التاريخية لا تتوقف على النص وحده، بل على القارئ أيضاً؛ لأن معنى السرد ينبثق من التفاعل بين عالم القارئ وعالم النص، فيصبح فعل القراءة اللحظة الحاسمة في التحليل بكامله، فعليه ترتكز قدرة السرد في صياغة تجربة القارئ؛ فامتلاك عمل بالقراءة، يعني نشر أفق عالم ضمني يحوي الأفعال والشخصيات، وعليه ينتمي القارئ إلى تجربة العمل التخييلي، وإلى فعله المرجعي، ويكون بناء الحبكة في السرد التاريخي هو العمل المشترك بين النص والقارئ.
إن إشارة بول ريكور (Paul Ricceur) إلى عالم القراءة يؤدي إلى تنزيل النص التاريخي في سياق تواصلي، فتصبح الكتابة التاريخية من هذا المنطلق حدثاً تواصلياً مرتبطاً بالمقام والسياق، ويغدو القارئ حينئذ همزة الوصل بين النص والعالم الذي يسكنه؛ لأنه يصبو دائماً إلى تحيين النص، أي إلى إنطاقه بما ينشغل به فكره، وبما يجول به وجدانه من قضايا وآراء، ولكنه لا يقدر مع ذلك على إنطاقه إلا بما يسمح به النص ذاته، وبما تتسع له إمكانات تأويله، التي هي صدى لما يمكن أن يوحي به.
إن حديث بول ريكور (Paul Ricceur) عن فعل القراءة يدل على أن التفكير النقدي المعاصر، قد تخطى مقولة الانغلاق البنيوية، وأن المنظرين من فلاسفة ونقاد أدب أخذوا يعيدون النظر والتحقيق في طبيعة الصلات التي تربط الخطاب بالعالم، ويعملون على إبراز الوظائف التداولية النفعية (البراغماتية) للخطابات الأدبية وغير الأدبية، ويلحون على أن الكلام يمثل أعمالاً لغوية تواصلية مؤثرة، وهذا ما دعت إليه المدرسة التحليلية في النصف الثاني من القرن العشرين على لسان أبرز منظريها جون أوستين (J. Austin) الذي ربط بين العملية التلفظية والمعنى، وأكد أن أثر الظواهر اللغوية في إنجاز أعمال لغوية تأثيرية مرتبطة بالمواضعات الاجتماعية، والمقامات التداولية.
ونخلص إلى أن الكتابة التاريخية جزء من الأدب العربي بمفهومه الواسع؛ فالمؤرخ في كتابته التاريخية يستعين بالفن الأدبي، فيتناول سيرة الإنسان ومسيرته في الكون، وتجاربه في الزمن؛ وبذلك تصبح الكتابة التاريخية عملاً قولياً تواصلياً، ومن ثم يمكن مقاربته مقاربة سردية تداولية، وفق مقتضيات المقام والسياق، ومقاصد الراوي المؤلف، ووجهة نظره، وموقفه الأيديولوجي.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010