اعتبروه عدوا، ودارت اتهامات شتّى حوله، وثارت عليه منابرُ المرجفين، إلا أنه لم يستسلم البتة لتلك العواصف الباطلة، فتصدى لحملاتهم الإعلامية المُحرِّضة ضده، برصانة معرفية وسماحة غير مصطنعة، وهو كذلك يتقن فن الإقناع، ماهر منهجيًا في نسف أباطيل وادّعاءات خصومه أو معارضيه بالتعبير السليم، فكان صوتًا حداثيًا فريدًا، لاذعًا أحيانًا، ومتزنًا في أحيان كثيرة، وكان خصومه تعبيرًا صارخًا عن الهزيمة والرجعية والهشاشة المعرفية.
وأبو غادة الكنية المحببة إلى قلب الناقد والمفكر السعودي عبد الله الغذّامي، وهو يفضّلها على لقب دكتور، لأنه يحب أن يظل إنسانًا نقيًّا ومثقفًا خفيفًا حُرًّا. ولد في عنيزة بالقصيم عام 1946، وتلقى تعليمه الثانوي فيها لينتقل للجامعة في الرياض للدراسة بقسم اللغة العربية ثم سافر إلى بريطانيا ليعود من جامعة إكسترا حاملًا درجة الدكتوراه، عاقدًا العزم على أن يكون ذا مشروعٍ ثقافيٍّ فريدٍ من نوعه، وتحقق له مطمحه ذاك. فتفتّح نبوغه في باكورة حياته وانكبَّ الفتى العصامي يقرأ التراث العربي بشغف واجتهاد وإتقان حتى استوعبه كله، وتآليفه المتنوّعة التي بلغت الثلاثين أو تزيد، تعكس لنا حقيقةَ مفادها أنه فعلًا موسوعي في التراث، كما أنه ممتلئ بالمعرفة الحديثة.
فهذا كاتبٌ نوعيّ غزير، إذ ليست الكتابة بالنسبة إليه إلا فعل وجود ونهوض وارتقاء، وليست مجرد وسيلةٍ لنشر الثرثرة الفارغة أو للوصول إلى الشهرة وحدها، كما يظنها البعض. هو يتقدم بخطى واثقة نحو ينبوع النور المضيء بكثافة، يعشق المغامَرة، ولا يتهرب من أية مواجهة فكرية تعنيه أو تضم فائدة قيّمة، ولا يسعى إلى مجد فارغ. فلا يزال يكتب، وفي مقدمة كتابه (الكتابة ضد الكتابة) نجده يقول: الكتابة عمل تحريضي، يحرّض الذات ضد الآخر، وهي في الوقت ذاته تحريض للآخر ضدّ الذات. ويتابع قائلًا: الكتابة عمل مضادّ من خلال مسعاها إلى تجاوز كل الآخرين ومحاولة نفيهم بواسطة اختلافها عنهم وتميزها عما لديهم.
بدأ الغذامي كاتبًا تنويريًا، وبرع أيما براعة في التعبير عن فلسفته النقدية الباهرة، التي تتسم ببعدها الأخلاقي الواضح، منحازًا بقلمه وضميره وبمنتهى الصدق إلى قيَم الحق والتقدم والقضايا المهمَّشة وعلى رأسها قضية المرأة. فلا يتسامح الغذامي مع التخلف أوالجهل والقمع بجميع أشكاله. إنه لا ينفك مقارعة الأفكار الفاسدة، لينشر أنوار الحرية والثقافة من حوله.
الغذامي الصوت العقلاني الحر بدأ خطواته الأولى بشجاعة وجدارة ولكنه سيصطدم بجيش كبير من التقليديين المتزمتين، لتبدأ معاناة الغذامي من أرباب القمع والترهيب والتشويه مع صدور كتابه (الخطيئة والتكفير) في العام 1985، ولكنها المعاناة التي ستزيده إصرارًا على مواصلة نهجه التقدمي، كتابةً ونقدًا وفكرًا، إلى أن يزدهر بمرور السنوات مشروعه النقدي الثقافي، ويتسع ضوؤه مالئًا أرجاء الساحة النقدية العربية كلها، وأصبح الغذامي اسمًا لامعًا، رمزًا غير عادي بين أقرانه وزملائه، وسوف يتشعشع أكثر هذا الوهَجُ النقدي الجديد.
من ذلك الواقع العصيب والشديد التعقيد، جاء الغذامي، ولم يأتِ من فراغ، ولم يمارس أيَّ شكلٍ من أشكال الادّعاء.
الدكتور الغذامي هو أيضًا أستاذ النظرية والنقد في جامعة الملك سعود ولكنه لم يتقيد قطُّ بشروط صفته الأكاديمية، بل إنه كسرَ ذاك التقليد الخاطئ الذي يقول إنه على الأكاديمي أن يظل أكاديمًا فحسب، وألا يكون له دور جماهيري، فلم يكن تقليديًا فخرج بحماسة وموهبة إلى الساحة العامة ليكتب في عديد من الصحف والجرائد والمجلات السعودية والعربية، وهو يعتز بنضاله المستمر هذا، لأنه لا يرغب بأن يكون الفعل الثقافي ترفًا نخبويًا أو كلامًا متعاليًا على هموم العامة. بمقدار انغماس المثقف في واقعهِ، وانشغالهِ بهموم وجراح الناس العاديين، لتكون حقيقته، وحجمه. والاِنعزال عن الجمهور لا يصقل الفكر ولا يثريه، على عكس الاتصال بأمور المجتمع.
وأما معارضو المنهجية الغذامية فقد عابوا عليه بأنها استقاها من ثقافة أجنبية أو مصادر غربية وبالتالي فإنها غير أصيلة، ولا نزيهة أو موثوقة، لكنه لم يتوقف عند هذا الكلام الاعتباطي، والأنكى أننا نحن العربَ ما زلنا ننظر إلى الآخر وثقافته نظرة مريبة تنطوي على نزعة عدائية، وهذا يدل على ضيق نظرتنا في عصر الانفتاح والتآخي، وأن مفهومنا عن الذات والهوية لا يزال رجعيًا، أو قاصرًا، مع أن الثقافةَ روحٌ كونية، وهي مثلها مثل الإنسانية لا تتجزأ.
لم يكن الغذامي إلا صوتًا حرًا يغرد خارج السرب غير منفصل عن المشهد الثقافي العام ولا عن مشكلات الواقع ومتطلبات العصر المتدفقة باستمرار بحكم أن هذه طبيعة الحياة. ولقد اعتاد منذ البدء أن يحطم الأقنعة الزائفة، سيّما تلك التي اكتسبت صفة القداسة في الثقافة العربية بسبب غياب النقد الن زيه الفعّال، وأصبحت الجماهير تتغنى بها، عن وعي أو بغير قصد، مع أنها في حقيقة الأمر وحقيقة النقد المنهجي، غير جديرة بذلك التمجيد المحيط بها. ولذلك سنراهُ يقاوم فساد الوعي ويعاند العمى الثقافي، بلا هوادة، وينتصر «للمهمَّش، والمؤنَّث، والمهمَل»، رافضًا ثقافة الكراهية والأنانية والإلغاء والتفحيل والتهميش والتكفير والتضليل والاستعلاء والتطبيل، ومن هنا تأتي قيمته التنويرية التي تكبر يومًا تلو آخر، خاصةً وأنه لم ينتهِ بعد من إنجاز مشروعه الرائع الضخم.
وأمّا كتابه النقد الثقافي، وعلى وجه التحديد في الفصل السابع منه، فإنه يفكك بعض نصوص ومقولات أدونيس ونزار قباني معًا، يتألق منهجيًا ولغويًا في تشريحها، فيخلص من ثَمّ إلى أنهما شاعران حداثيان من حيث الشكل فقط، وأمّا جوهريًا فإنهما رجعيّان؛ بدليل عيوب خطابهما الشعري الذي تتخلّله شطحات ذكورية وملامح نسقية. وقد أثار هذا الحكم ثائرة أدونيس غير مرة، وأما نزار فلم تكن له ردة فعل لأنه قد خرج من الحياة قبل صدور كتاب الغذامي هذا. إذن، فذلك العمى الثقافي المنتشر في عقولنا يكشفه الغذامي بنقده الثقافي، بخلاف النقد الأدبى الذي يتعامى عن «عيوب الخطاب ومشاكله النسقية»، وعليه فلا مجال للاستغناء عن النقد الثقافي الكشّاف الذي «يُعنى بعيوب الخطاب، وما يختبئ وراء الجمالي» لأن «ليس الجمالي إلا غطاء تتقنع به الأنساق لتمرر هيمنتها على الذائقة العامة متوسلةً بحرّاسها الفحول وأدونيس من أبرزهم، ولا شك» كما يقول. ويبدو لي أنه من المفيد لنا أن نقرأ كتابه المسمى النقد الثقافي، وأن نستوعبه استيعابًا جيّدًا، ثم ننطلق ونقرأ مؤلفاته الأخرى، كي نفهمَ فلسفيةَ وعلميةَ الروحِ الغذامية، ونحيطَ بعالمه الفكري الزاخر، على نحو صحيح.
ولا يَنسى الغذامي أن يشترط على الناقد الثقافي أن يقبل بأن يكون هو نفسه منقودًا. ومن خلال هذا النوع من النقد، يسعى صاحبنا إلى تحريرنا من عقدنا وعيوبنا النسقية المخزونة في أعماقنا، أو في عقلنا الباطن أو اللا شعور. وبما أنه الحداثي الكبير في المملكة العربية السعودية، والأكثر إنتاجًا وتأثيرًا، فإن الحداثة، في تصوُّره، هي «التجديد الواعي». وحين يدعو إلى الحرية النبيلة والقيم الإنسانية الرفيعة إنما ليقف ضدًا على العبث؛ لأن «كل حرية دون مسؤولية ستتحول إلى تسلط وهيمنة كما جرى في ثقافة الشعر حيث صارت عداوة الشعراء بئس المقتنى، كما حدد المتنبي، وكذا عداوة الصحفيين وعداوات تويتر ومواقع التواصل، مما يوجب إثارة السؤال الثقافي عن معاني الحرية والمسؤولية» كما يقول في كتابه (ثقافة تويتر).
تبسيطًا، النقد الثقافي هو عبارة عن فلسفة تفكيكية ذات غاية أخلاقية ونزعة إنسانوية، أو بعبارة أخرى هو تنوير أخلاقي فكري عميق، يكشف ويعرّي القُبحيَّات المضمَرة وراء جماليات البلاغة الأدبية البرّاقة.
ثم هذا هو كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) يسرد لنا فيه قصة الحداثة وكفاحها وما تعرضت له من هجمات صحوية وغوغائية كثيفة، فهو يشرح كل شيء بالتفصيل فنعرف كيف كانت معاناته بوصفه كاتبًا وناقدًا حداثيًا في مجتمع شديد المحافظة على ثوابته وعاداته وتقاليده، بل حتى إن أكاديميين محافظين من زملائه قد عارضوا قضيته الحداثية، أو خافوا من منهجيته النقدية، وربما حاول بعضهم غير مرة تحطيمَ مشروعه النقدي الثقافي الذي يتزعمّه هو نفسه، وقراءة هذا الكتاب ليست ماتعة فحسب، بل وتُعلِّمنا الكثير الكثير، وأسلوبه من الروعة التعبيرية بحيث لا تشعر معه بالضجر، وتستطيع أن تفهم مضمونه من غير الشعور بالضيق والتعب.
وبلا مبالغة، فإن الغذامي مفكر إنسانوي مدهش، غير منغلق على الآخر، ولا يمارس النقد ضد الأشخاص بدلًا من تناول أفكارهم، ويتحلى بشكيمة سَمِحَة، وفي مقابلة قديمة أجراها معه الإعلامي السعودي المرموق محمد رضا نصر الله في برنامجه (هكذا تكلموا)، متاحة على يوتيوب، سيقول الغذامي بأن «الذي لا يتسامح لا يستطيع أن يخلق علاقات مع الآخرين. لكي تخلق علاقات مع الآخرين لا بد أن تكون متسامحًا، وقابلًا للآخرين». وهنالك شواهد كثيرة على تسامحه الروحي والفكري ونجدها متناثرة في مختلف تآليفه، ولكن يكفينا هنا هذا المثال.
وفي كتابه (المرأة واللغة) ينتصر للنساء، يفضح قُبحيّات الأنساق الثقافية التي تهين شرف المرأة، أو تقلل من شأنها، لنجد مثل هذا الدور المكثف كذلك في كتابه (ثقافة الوهم) حيث يسلط الضوءَ الساطعَ على مأساة غياب المرأة والصوت الأنثوي في الأدب واللغة معًا، ويتفانى بمحبة وموضوعية في تفنيد وردع تلك النظرات والأوهام الذكورية المنحرفة، التي تعتبر الجسد الأنثوي مجردَ موطنٍ للمتعة الجنسية، وتصادر عقل المرأة وتنكر أن لها عقلًا قادرًا على الإبداع والتألق الثقافي ومنافسة الرجل إبداعيًا، وتبلغ إنسانيته ذروتها في كتابه (الجهنية، في لغة النساء وحكاياتهن) الذي يرفع فيه من قدر النساء، ويبرز جمالَ جوهرن الإنساني العميق، مُعرّيًّا ذلك الكيدَ الثقافيَّ القديمَ الذي صنعه الغرور الذكوري على سبيل احتقار المرأة، وتهميشها، وشيطنة إنسانيتها، واستلاب حقوقها، وإضعاف إرادتها.. والجهنية لقب اشتهرت به والدة الغذامي، تلك الأمّ الطيّبة الكريمة التقية ذات الأريحية العالية، على حد وصفه لها، فجعل هذا اللقبَ العزيزَ على فؤاده، عنوانًا لكتابه، فهذا الكتاب خصوصًا مليء بالمحبة الغذامية التي تساند النساء في بيئة اجتماعية نسقية بل تكاد تكون معادية لكل ما هو أنثوي، وهكذا يؤنْسِنك الغذامي وجدانيًا ويُضيئك فكريًا بحيث يجعلك تعيد النظر بشكل حضاري إلى كيان المرأة، وعندها تصبح أنت قريبًا من عالم النساء، نصيرًا لهن، لا متسلطًا عليهن، ولا ناكرًا لجهودهنّ العظيمة التي تنبني عليها الحضارات.
وغير ذلك، له حديثٌ مؤثِّر جدًا عن والدته فاطمة صالح الجهني نقرؤه في كتابه (القلب المؤمن، وهل يلحد القلب؟!)، وأبو غادة إنسان ليّن الجانب، حقًا، فمن لغته الوجدانية تنساب عواطف إنسانية كريمة للغاية، فهو يحب أُمّه وبناته حبًا صافيًا عظيمًا، والذي يَكُنُّ في قلبه هذا الحبَّ الصادقَ لوالدته وقريباته، فلا بد أنه يحب ويحترم جميع النساء، وسيدافع عنهن بالفكر والوجدان والحكمة وبكل الوسائل المتاحة له.
هو الذي أعلن بروح شجاعة ومسؤولية واعية أن النقد الأدبي مات، وقد آن الأوان لدخول النقد الثقافي إلى ساحة النقد العربية. من وجهة نظر غذامية، إذا كان النقد الأدبي يبحث في النصوص من خلال، تشريحها، عن الجماليات، والسمات الفنية، فإن وظيفة النقد الثقافي هي، بالدرجة الأساس، كشف العيوب والفيروسات المختبئة بين ثنايا النصوص، وهذه قبل كل شيء مهمة أخلاقية عالية تستحق التقدير الشديد، وينجح الغذامي في تعرية الزيف الثقافي، فيما يسعى في الوقت ذاته إلى خلق ثقافة جديدة غير عنصرية ولا إقصائية، تحترم الكرامة الإنسانية حق الاحترام.
وإذ هو يغوص في الأنساق الثقافية العربية، ويتتبع خيوطها غير المكشوفة، فإنما يعرّي ثقافة المدح والهجاء المكرسة في الخطاب الشعري العربي منذ زمن طويل، ويكشف كيف أنها دمرت بعض القيم الأخلاقية والاجتماعية الكريمة، وإلى أي مدى هي خطيرة على سلوك الممدوحين ووعي العوام..
وكتابه (العقل المؤمن، العقل الملحد) يحتوي على الكثير من الثروة الفلسفية، وينهض الغذامي مدافعًا حصيفًا عن الحقيقة، ويؤكد بالأدلة على أن اجتماع الفكر الحر والإيمان الديني في شخص الكاتب أو المفكر أو الفيلسوف، ليس عيبًا، ولا منقصة، وهو أيضًا يعمل على التوفيق بين العلم والإيمان، وهكذا ينطلق بفلسفته العميقة، باعتدال لا بتطرف، إنه نموذج عقلاني وأخلاقي جديد في ثقافتنا العربية، وتخلو كتبه من التهافت والتعقيد الأسلوبي، فكما يفهما المتخصصون يفهمها القراء العاديون أيضًا، وهذه ميزة أخرى محسوبة له.
وموقفه من التراث عقلاني ونبيل، إنه موقف المُجدِّد الواعي، الحر اليقظ، فهو ليس منقطعًا عن التراث، بل متصل به اتصالًا عميقًا ويشتبك معه اشتباكًا نقديًا نزيهًا؛ فحداثته تشترط عدم القطيعة مع القديم أي التراث، لأن «مَن أخذ بالقطيعة أخذ بالانغلاق» بحسب تعبيره في لقاء متلفز.
وقد ظل الصراع مفتوحًا بين الفكر الحداثي المنفتح والفكر السلفي المنغلق حد التطرف، فالغذامي قضيته هي التقدم الواعي والارتقاء بالفكر والقيم والمعايير، وأولئك قضيتهم هي رفض التحديث الواعي والخروج من كهوف الماضي، وفي نهاية المطاف سينتصر الغذامي كونه صاحبَ رسالةٍ حضارية تليق بوطنه السعودي الذي يتحرَّق شوقًا ليكون مثالًا حضاريًا بحجم المنطقة العربية كلها، وها هو يزدهر ذاك المجتمع الحيوي الطموح.
فهذا هو الغذامي الذي نعرف، ولا غرابة.
هامِش:
استفادت هذه المقالة من المصادر المذكورة في متنها.
** **
- ضياف البراق