الثقافية - علي القحطاني:
شخصية الإمام الفيلسوف مصطفى عبد الرازق 1304 هـ 1885م /1366هـ /1885م كان مفكراً وأديباً وفقيهاً ويعتبر مجدداً للفلسفة العربية في العصر الحديث، تولى الشيخ مصطفى عبد الرازق وزارة الأوقاف ثماني مرات، وكان أول أزهري يتولاها، واختير شيخاً للأزهر في محرم 1365هـ / ديسمبر 1945م ، وكان المؤلف القاص الأستاذ إبراهيم بن مضواح الألمعي قد أصدر كتاباً عنه بمناسبة ثمانين عاماً على رحيله وتناول في فصولِ كتابه سيرته ومراحلَ حياته ونشاطَه العلمي، والأدبي، والاجتماعي، والثقافي، مستفيدًا مما كتبه بنفسه، ومقالاته، وما كتبه عنه شقيقه علي عبدالرازق، وما دوَّنه معاصروه وتلاميذه في سيرهم الذاتية وأجرت «الثقافية» لقاءً مع الأستاذ إبراهيم الألمعي وتحدث عن شخصية المحتفى به ودور الإمام محمد عبده في تغيير مجرى حياته بعد أن ضاق ذرعاً بالمناهج التقليدية العتيقة للأزهر وذهب إلى فرنسا واستفاد من ثقافاتها واستطاع أن يحافظ على الاعتدال والوسطية وذلك من خلال توليه لمشيخة الأزهر وأحدث ثورة علمية وحداثية في تطوير مناهجها وطرق تدريسها كما يورد الأستاذ إبراهيم الألمعي أقوالاً من معاصريه وتلامذته الذين كان لشخصيته الريادية أثر على مبدعي مصر الروائي نجيب محفوظ، الفيلسوف عبد الرحمن بدوي.
الوسطية والاعتدال
- شخصية مصطفى عبد الرازق كانت عالية الثقافة وتتلمس المنهجية والوسطية والاعتدال ومهد لتدريس علم الفلسفة في الجامعة المصرية؛ ليتك تحدثنا عن كتابك ومنهجيتك في دراسته؟
_ لقد تناولتُ في فصولِ هذا الكتاب سيرةَ مصطفى عبد الرازق، ومراحلَ حياته ونشاطَه العلمي، والأدبي، والاجتماعي، والثقافي، والإنساني، والرسمي، والديني؛ مستفيدًا مما كتبه بنفسه، ومقالاته، وما كتبه عنه شقيقه علي عبدالرازق، وما دوَّنه معاصروه وتلاميذه في سيرهم الذاتية، أو مقالاتهم المنشورة، وقد كانوا من أبرز أعلام النهضة العلمية والأدبية خلال قرن العشرين، في مصر خاصة، والعالم العربي بعامة. وفي كُلِّ ما كُتِبَ إجماع على القيم الأخلاقية الرفيعة التي طُبعَ عليها، وتقديرٌ لجهوده الإصلاحية، والإنسانية، ومحاولاته الواعية للتقريب بين التراثي والعصري، والشرقي والغربي، والعلمي والأدبي، والديني والدنيوي.
التقليدية والتجديد
- اتصاله بالإمام محمد عبده والثقافات الأخرى وضيقه من طريقة التدريس والمناهج الأزهرية قصة تتكرر في كل بيئة وزمان عندما يضيق المبدعون بالتقليدية وينشدون العلم والثقافة في بيئات مختلفة؛ كيف تجدها في شخصية مصطفى عبدالرازق؟
_ لم يكن مصطفى عبدالرازق سلبيًّا، ولا مستسلماً للمألوف الذي لا يتفق مع وعيه وتطلعاته، فقد لجأ بالشكوى بادئ الأمر إلى الإمام محمد عبده، إذ كان أمله أن يأخذ بيده، ويخفف عنه السأم الذي أحاط به طالباً في الأزهر، وقد أعجب الإمام محمد عبده بنقده، وأخذ بيده فعلاً؛ فأرشده إلى قراءة كتب الأدب، والاستمرار في الدراسة الأزهرية، فأخذ بنصيحته، وتخرج متقدماً على جميع زملائه.
وبقي من أجلِّ أهدافه صيانةُ الأزهر، وتطويره؛ منذ مطلع حياته حين ذهب إلى الدراسة في فرنسا حتى تحقَّقَ له شيءٌ من ذلك في نهاية حياته، حين وَلِيَ إمامة الأزهر أربعة عشر شهراَ فأحدث تطويراَ ملحوظاَ، ولكن الأجل لم يمهله حتى نهية شوط آماله.
العقلية المستنيرة
- ما أثر هذه الشخصية على مبدعي مصر الروائي نجيب محفوظ، الفيلسوف عبد الرحمن بدوي؟
_ لشخصية مصطفى عبدالرازق وإخلاصه سحرٌ وإشعاع في كل محيط مرَّ به أو عمل فيه، فتأثر به معاصروه وتلاميذه، وتلاميذهم، فلا تكاد تخلو سيرة ذاتية لأحد أولئك إلا تطرقت لذلك التأثير، بالكثير من الحب والانبهار، ومن أولئك: الروائي نجيب محفوظ، والفيلسوف عبدالرحمن بدوي، وعديدٌ من الأعلام سواهم، أسرد القليل مما يسمح به المقام، من شهاداتهم؛ فنجيب محفوظ يصفه قائلاً: «هو مثالٌ للحكيمِ كما تصوَّرُه كُتُبُ الفلْسَفَة، رجلٌ واسعُ العِلمِ والثقافةِ، ذو عقليَّةٍ علميةٍ مستنيرة... كان عالماً عظيماً؛ يقربك من إشراق وحقيقة الدين، بروحه العظيمة وأدبه الجم»، وفي كتابه أساتذتي يقول: « أنبل وأعظم الشخصيات التي عرفتها في حياتي، لذلك تأثرت به تأثراً شديداً منذ أن تعرفت إليه كتلميذ لأستاذه في كلية الآداب بين عامي ثلاثين وأربعة وثلاثين في أثناء تدريسه للفلسفة الإسلامية؛ التي كان يعتبرها والفلسفة بوجهٍ عام باباً من أبواب المعرفة وتقدير الحياة والدخول فيها، وكان أستاذاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهو يحاول أن يكون للطالب عقلٌ يقوم على أُسِسٍ صحيحة من الفكر ومن الفهم؛ وإعطاء ذلك كله جميع ما يستحقه من صبرٍ وجَلَد. فقد كانت له طريقة معينة في التدريس، حيث يطلب أن نقرأ النص، ونفهمه باجتهادنا، وننقده بعقلنا. وكان يفتح باب بيته لكل تلامذته، فيذهبون إليه، ويعقد معهم ما يشبه الندوة، وتدور بينه وبينهم مناقشات في الأدب والفلسفة والفكر والحياة العامة، وكان يسمح لمن يريد من تلامذته باستعارة الكتب من مكتبته، فقد كان صدره متسعاً جداً لنا ولكل الناس، فهو مثال للحكيم الذي كُنَّا نسمع عنه ونقرأ عنه في الكتب والأساطير».
ويقول عبد الرحمن بدوي: «لقد كان النُّبلَ كُلَّه، والمروءةَ كُلَّها، كان آيةً في الحِلْمِ والوقارِ، وكان آيةً في الإحسانِ إلى الآخرين».
وقد سبق هذين العَلَمَين في ذكر سجاياه أساتذة كبار؛ منهم أحمد أمين الذي قال: «كم له من يدٍ على اليتامى والفقراء، وكم أنفقَ في تعليمِ محتاج، وكم سعى في توظيفِ عاطل، أو دفعِ الظُّلمِ عن مظلوم، أو إيصالِ الخيرِ لمستحق».
وكذلك قال طه حسين: «لم أعرف قَط قلباً أبرَّ بفقيرٍ، ولا نفساً أرقَّ لذي حاجةٍ، ولا يداً أسرعَ إلى العطاءِ، من قلبِ مصطفى عبد الرازق ونفسِهِ ويدِه».
وقال يحيى حقي: «لا أعرفُ قلماً أحببتُ آثاره كقلمِ مصطفى عبدالرازق؛ ولا بَجَّلْتُ إنساناً كصاحبِ هذا القلم». وكتب كمال الشناوي: «كانت أفكارُه وألفاظُه ومشاعِرُه وعقيدتُه وأخلاقُه مثلَ ثيابِهِ رشيقةً نظيفة».
ندوة مصطفى عبدالرازق
0 كيف كانت ندوة مصطفى عبدالرازق الأدبية في الحراك الثقافي وكيف قام أدباء جيله بتوصيفها؟
_ امتازت ندوة مصطفى عبد الرازق بعدة ميزات؛ أولها الأريحية؛ فقد كانت مفتوحةً لجميع أطياف الثقافة، واتجاهات الفكر، ثم إنه لم يكن يجلس منها مجلس المدير، وإنما يلتقي المثقفون والأدباء الأزهريون وغير الأزهريين، العرب والأجانب، ويديرون أحاديثهم بحرية تامة، في حين ضَمَّتْ الندوةُ مكتبةً عامرة، كانت مرجعاً للباحثين، ومكاناً لإعداد دروس الأساتذة، وقد تحدث عددٌ من رواد هذه الندوة أحاديثَ حبٍ وإعجاب: فقال شقيقه علي عبد الرازق: «لا جرم أن هذه الندوة قد أمَدَّتْ النهضة المصرية بلون طريف من العلم والأدب، وأظهرتْ بين المصريين طائفة ذات طابع خاص من الثقافة يمتزج فيه القديمُ بالحديث، وتتآلف عنده الفلسفة والدين، وتتفتح في رحابه آفاق البحث، وتنطلق تحت ظلاله مذاهب الفكر. ولا شك أن أخي مصطفى - من حيث كان يريد أو لا يريد، ومن حيث يُدْرَى أو لا يُدْرَى - هو مدارُ هذه الحركة وقطبُها».
ويقول عنها د. شوقي ضيف: «كان منتدىً كبيراً يجمع الأزهري العصري والمثقف ثقافة قديمة، والمثقف ثقافة حديثة، والوزيرَ وغيرَ الوزير من رجال الفكر والقلم، وكان مصطفى عبدالرازق كوكب هذا النادي بما يجمع من الثقافة الحديثة والفكر الجديد مع التمسك الشديد بالشريعة الإسلامية وروح الإسلام».
وتحدث عنها د.إبراهيم زكي خورشيد فقال: «أصبح بيته يلتقي فيه المثقفون والأدباء الأزهريون وغير الأزهريين، العرب والأجانب، ويديرون أحاديثهم بحرية تامة. وقد أمَدَّتْ هذه الندوة النهضة بلون طريف من العلم والأدب، وأظهرت بين المصريين طائفة ذات طابع خاص في الثقافة؛ يمتزج فيه القديم بالحديث، وتتآلف عنده الفلسفة والدين، وتتفتح في رحابه آفاق البحث، وتنطلق تحت ظلاله مذاهبُ الفكر... وقد كنا نؤم هذه الندوة ونتعلم منها الكثير، وكان الحاضرون يُدعون جميعاً إلى الغداء إذا حل وقت الغداء، ويقام لهم جميعاً العَشاء إذا أقبل وقت العَشاء، بل إن معظم الأساتذة في جامعة القاهرة إذ عادوا بعد إتمام دراستهم في أوروبا كانوا يُعدون دروسَهم في بيت الشيخ مصطفى على اختلاف تخصصاتهم في الأدب أو في اللغة أو في الفلسفة».
مذاكراته الشخصية
- ما دور شقيقه علي عبد الرازق في تدوين مذكرات شقيقه مصطفى لا سيما وأن كتابك أحال كثيراً من المشاهد إليه؟
_لقد كان علي عبدالرازق نعم الأخ الوفي لشقيقه، فجمع آثاره في مجلَّدٍ نفيس، ولَخَّصَ في بدايته سيرة مصطفى عبدالرازق، على نحوٍ تفصيلي ينم عن حبٍ وقربٍ وإعجاب، وقد تحرَّى أن يكون موضوعياً في ذلك، وامتازت كتابته بأنها خلاصة عِشْرَةٍ طويلة، ومعرفة لصيقة منذ الطفولة، حتى نهاية العمر، وقد نُشِرَ الكتاب عام1957م، في الذكرى العاشرة لرحيل مصطفى عبدالرازق، بمقدمة قيِّمة لصديق الأخوين طه حسين، بعنوان: «مصطفى عبدالرازق كما عرفته».
التأليف بين التنائيات
- ما هي الجوانب التي ترى أنها تستحق أن تذكر في شخصية مصطفى عبدالرازق؟
_لقد اتخذَ مصطفى عبدالرازق من الحُبِّ والعِشْقِ والصداقةِ سُبلاً للبحث عن الحقيقة، وآلياتٍ للدَّرس والتعليم. منطلقاً من أصالة حضارته، ونقده الهادئ للثقافات الوافدة، وهو الفيلسوفُ الذي رَغِبَ عن انتحال النظريات إلى تأسيس المنهج، واجتهدَ في التأليف بين الثنائيات التي أعيت الفكر العربي الإسلامي: الدين والعلم، الفلسفة والشريعة، القديم والجديد، الشرق والغرب، السفور والحجاب، التسامح والتعصب، الاستشراق والاستغراب، النقد والنقض، جماليات الإبداع وغرابة الجموح والابتداع، شموخ الأرستقراطية وتواضع الديمقراطية، بساطة الخطاب وعمق المشروع. وسوف يظل مصطفى عبدالرازق عَلَمًا في تاريخ الفكر الفلسفي العربي المعاصر، وأستاذاً بحَّاثة، ورائدَ مدرسة الفلسفة العربية المعاصرة؛ الذي أرسى قواعد البحث فيها، وأسس مباحثَها، وحدَّدَ قضاياها.