تحملنا رواية «قنطرة» للكاتب السعودي أحمد السماري إلى رحلة في عالم الموسيقى والجغرافيا الخليجية مع انعكاس قوي للمكان على شخصيات الرواية. فالمكان وتحديدًا «حي الطرادية» لم يعد ديكورًا هامشيًّا بل أصبح عنصرًا ثابتًا يحمل الكثير من المعاني وذلك في إشارة لوظيفة أداء المكان كطرف أساسي وعنصر كحائي مهم في مشهد العمل القصصي. ثم يأتي رسم شخصيات هذا الحي بطريقة مباشرة معتمدًا الكاتب على صيغة المتكلم، لتخبرنا كلّ شخصية كيف وصل بها المطاف إلى هذا الحيّ وبذلك مجاراة السكان لبعضهم. إذًا، من طفولة قاسية، من وحدة وتعثر وألم إلى عزف على العود وإصرار على المثابرة وصولًا إلى تشكيل فُرْقَة موسيقية خاصة. ومن بيت قروي إلى السفر إلى الرياض للدخول في عالم الفنّ: مراحل يقطعها الفنان وحيد (الشخصية الرئيسة في الرواية) فنعيش معه التغييرات التي طرأت على المجتمع القروي السعودي وانعكاساتها على حياة الفنان، تغييرات جذرية عاشتها الموسيقى: من زمن الأسطوانة إلى الكاسيت إلى الإنترنت ومن زمن الأغنية الشعبية إلى الطربية إلى الحفلات الموسيقية في العالم العربي: كل ذلك شكل سفرًا في الفنون والآلات الموسيقية داخل الكتاب، لنلج داخل النفوس أيضًا في جرأة للكاتب في طرح المواضيع بشفافية وعمق إذ يقول في الصفحة 20 على سبيل المثال:»الفنانون أصحاب عقول مشتعلة في رحلة بحث دائمة نحفر في الذاكرة في الحب والصداقة والإيمان وغور المشاعر، نبحث عن الذات في متاهة الجنون والهوس، ولكنّ لكلّ شيء ضريبته، وضريبة الفردانية تكون بضعف خبرتك الحياتية ووقوعك في المطبات بل أحيانًا المصائب». إذًا، في الرواية حكايات لمصائب عاشها الفنان وحيد طيلة حياته مترجمة انفصال مشاعر الناس عن المكان. وصولا إلى ما آلت إليه الأمورمن دخول بطل الرواية إلى السجن. هنا نفتح المزدوجين لنشير إلى أهمية عنوان الرواية «قنطرة»، بحيث شكل العنوان المفتاح للنص فكانت صورة العود داخل القضبان الحديدية نافذة للحياة في السجن، كما ويتوافر في العنوان شحنات دلالية مكثفة قادرة على نقل القارئ في شخصيات النص إضافة إلى مقاطع الرواية المتنوعة زمانيًّا ومكانيًّا. تجدر الإشارة إلى أن الرواية تنقلنا إلى شخصيات أخرى ممن سكنوا»حي الطرادية» هي مرتبطة بطريقة أو بأخرى بالفنان وحيد. على سبيل المثال: شخصية المطربة ساره عنبر ولقائها في سياق مسيرة حياتها ببطل الرواية، يؤدّي الحبّ دورًا مؤثرًامع جمالية الوصف الذي تميّز بها الكاتب السماري بحيث عبّر عن هذا الحبّ في الصفحة 62: «تلك السمراء لم تخلق للحبّ بل الحبّ خلق لها». إنما مع الوقت ساره تحولت إلى شخصية صامتة وكما يصفها الكاتب بعمق التعبير: «لم يكن صمتًا بل اختنق بالكلمات...احتراق داخلي يتراكم دخانه في صدري حتى تختنق أنفاسي». وفي السياق: تدخل شخصية الشاب خالد ابن أمّ سليم (من الحي نفسه) الذي أصبح مرافقًا، ثم مدير أعمال الفنانة ساره لينتهي به الأمر بالزواج بها طمعًا بمالها. هنا يكتشف القارئ تداخل تلك الشخصية مع بطل الرواية خصوصًا لناحية المشاكل التي سببها في المنحى الدرامي. ويأخذنا الكاتب إلى شخصية أخرى تتقاطع مع المكان تراجيديًا في تطور أحداث الرواية ألا وهي شخصية لاعب كرة القدم المشهور عبدالله مبارك أو لقبه «عبادي». حتى لكرة القدم ذاكرة مريرة في حياة هذا البطل الذي ينتهي به الأمر إلى السجن ومصادقة الفنان وحيد. لنعود فنسلط الضوء على أهمية الشكل السردي للمكان وأعني هنا «السجن» مع ما يشكل من علاقات بين ساكنيه ومن مشاعر مركبة وأحيانا آمال محبطة.
رواية عن حارة مهجورة وعن ناس عندما يهجرون مساكنهم فينسونها ولا يعودون إليها، والعودة هنا بمعناها الجسدي والأخلاقي. رواية عن الفنّ الشعبي الذي كان قنطرة لتطور الفنون الموسيقية في بلاد حضنت الكثير من المواهب فشكلت نافذة أمل بين الأجيال.
** **
ميشلين مبارك - عضو اتحاد الكتاب اللبنانيين.