د.أحمد يحي القيسي
الطبيعة ملهمة الإنسان منذ الأزل، منها استوحى أولى موسيقاه ولوحاته وشعره، ومازال يلوذ إلى رحابها كلما سد الفراغ في وجه تفكيره الآفاق. لتحلق به أجنحة التأمل عميقاً بين عناصرها كي يستلهم فكرته.
ففي مختلف الفنون تتصدر الطبيعة بواعث الإلهام، وكل مبدع يذعن إلى مكوناتها بصيغة تمليها عليه مقومات فنه.
ولئن كان تجلي الطبيعة في آداب الأمم سمة غير مُقَيِّدَة للأديب بصفتها موضوعة أو لازمة تمس العرف الأجناسي، ولا تختص بها فئة دون غيرها من مرتكبي أي فن، فإنها في قصيدة الهايكو كانت مُنطَلَقاً لا يحيد عنه الشاعر، فلا مفر للنص منها، خاصة النص الكلاسيكي.
وحتى بعد هجرة الهايكو من أقاصي الشرق إلى أوروبا، وتلاقحه مع الثقافة الجديدة التي تولدت عنها هوية أخرى تحاكي مدنية الحياة هناك، فإن هويته الأولى لم تتزعزع، فمازال يرتدي بزة الطبيعة، وظل طوال ارتحالات النص– فيما بعد – مستمسكاً ببنيته وبكينونته.
وفي التجربة العربية ثمة من لم يلتفتوا لمدنية الهايكو، متخذين من الطبيعة وُجهة تقصدها تأملاتهم، ومنهلاً تستقي منه أفكارهم مادتها، وإن تجاوزوا صيغة النص الكلاسيكي أحياناً، ومنهم الأديبة السورية غصون نمر الطرشة.
فعلاوة على الإيحاء الشعري للمفردات التي تنتقيها غصون الطرشة تميزت نصوصها بتجردها من الأنا، إذ يندر أن تجد ضميراً أو أثراً في الجملة يشير إليها، ليغدو نصها أشبه ما يكون بصورة فوتوغرافية يقتنص مشهداً من الطبيعة، تقول:
ثلج الصباح -
على حافة إفريز تتدلى
زهرة وحيدة
وإن كان ذلك لا ينفي التجلي الصريح للذات في بعض النصوص، لكنها تتنحى عن التحكم في تفاصيل المشهد ، أوتحريف صورته، فهي تنقله كما هو من منظورها الخاص، تأمل قولها مثلاً:
فوضى النهر -
يزيدني غمّا سقوط
قرطي الفاخر
ورغم بساطة المشاهد التي يؤطرها نص الطرشة، يلفت انتباه القارئ التنوع التضاريسي الذي تستلهم منه أفكارها، وكذلك تركيزها على طابع الحركة أكثر من الثبات والسكون، كقولها:
على الصاري المكسور
يتعلم الطيران
صغير النورس
ولعل في ذلك تفسيراً للثراء المعجمي الذي تزخر به نصوصها، والذي يستمد مادته من حقل الطبيعة، فمن معجم الماء مثلاً تصادفك مفردات من قبيل «الجدول، العين، الساقية، النهر، البحر، الشلال، المطر... إلخ»، وتقاس على ذلك معاجم الطير والأزهار والأشجار وغيرها.
وأخيراً ، إليكم هذه الباقة المختارة من نصوصها:
في المرآة المكسورة
تبدو ابتسامتها
منحنية
* * *
ما الذي أيقظكِ الآن،
مرّة على لساني
حبة اللوز
* * *
هزيلٌ
على حائط الإسمنت
ظل زهرة
* * *
فتاة في مقتبل العمر
على غصن شجرة
أول برعم
* * *
سماء واسعة-
من ريشة الرسام تطير
أسراب اللقالق
* * *
مطر غزير-
تحت مظلة الموقف
أحاديث لا تنتهي