حامد أحمد الشريف
عندما دعاني أخي الحبيب الأستاذ صالح دردير، الخبير الأُسَري المعروف، ورائد الكتب الجماعيّة، للمشاركة في واحد من كتبه الفريدة، لم يكن من سبيلٍ للتهرُّب من هذا الاستحقاق، فالصَّداقة، والأخوَّة، والعمر المديد الذي يجمعني به، والكثير من المفارقات الكوميديّة التي صاحبت رفقتنا في الجامعة - وتحديدًا في نادي التراث الشعبي - لم تترك لي مجالًا للتنصُّل من هذا الفرض الواجب؛ هذا عدا محبّتي له، ورغبتي الشخصيّة بظهور اسمي إلى جانب اسمه، وحتّى يكون حضوري في حفلات التدشين، بين مئات الأسماء التي تُسهم معه في تأليف كتبه، مبرَّرًا؛ علمًا أنّ حضور هؤلاء الأشخاص شبه مؤكّد، إن لم نقل أنّ الحضور يقتصر عليهم وحدهم، إذ يصعب دعوة أحد غيرهم، مهما كانت قيمته أو العلاقة التي تربطه بالأستاذ دردير...
واجهتني في البداية إشكاليّة الفكرة التي تبنّاها الأستاذ صالح لهذا الكتاب، والتي اِختصرها بكلمتين شكّلتا عنوان الكتاب: «فنُّ اليَنبغيّات»، المقصود بها - كما فهمت منه - ما ينبغي علينا فعله، وما لا ينبغي علينا فعله، في بعض المواقف التي تعترض مسيرتنا.
لم ترق لي، في البداية، فكرة الكتاب، لخلوّها من العمق، وعدم انسجامها مع نوعيّة الكتابات السرديّة التي أحبّها، والتي تكون عادة غير مباشرة، إضافة إلى اقترابها من الوعظ الذي ينفر منه كلّ السرديّين. زد على ذلك أنّه لم يكن باستطاعتي تغييرها أو الجدال حولها، لسبب بسيط، هو أنّ «صالح» يتبنّاها، ولن يحيد عنها.
وللتماهي مع فكرة الكتاب، هداني تفكيري وقتها إلى توظيفها للحديث عن الكتابة نفسها، بالتطرُّق إلى ما ينبغي على الكاتب النهوض به عند عزمه على الكتابة، حتّى لا يضطرّ مستقبلًا أن يتوارى عن الأنظار، خجلًا ممّا كتبه؛ بالأخصّ أنّ كُتُب صديقي صالح دردير جميعها تُعنى بالكتابة، ومَن يكتبون معه - يقينًا - ليسوا سواء، وبعضهم قد يحتاج إلى نصائح تدفعه خطوة إلى الأمام.
واتتني هذه الفكرة أيضًا بعد سؤالٍ وجَّهَه لي، مستغربًا إقبال القرّاء على اقتناء الكتب في المجتمعات الغربيّة، وإحجامهم عن ذلك في مجتمعاتنا العربيّة؛ وتعدُّد الطبعات لديهم في الغرب، مقابل عجزنا في الشرق عن تصريف الطبعة الوحيدة التي لا تزيد - في أحسن أحوالها - عن ألف نسخة، رغم القيمة التي تمتاز بها بعض العناوين.
سؤاله هذا فتح لي نافذة مهمّة على «الإتقان» الذي أوصانا به رسول الهدى - عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم - كما ورد في حديث أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إذ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمّ ((إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنَه)) - رواه الطبراني في الأوسط، وصحّحه الألباني.
هذا الإتقان الذي أُمِرَنا به، تركناه، ولم نلتفت إليه مطلقًا، في وقت اتّخذه الغربيّون منهجًا ونبراسًا، وبنوا حضارتهم الحاليّة عليه، فتقدّموا وتقهقرنا؛ خلاف التزام شريحة كبيرة منهم، بما في ذلك عوامُّهم، بالهَدي القرآني الذي أرشدنا مبكِّرًا إلى أهمّيّة القراءة، في أوّل آية نُزِّلت على نبيِّنا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلّم - في قوله تعالى: ((اِقرأ باسم ربِّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اِقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)).
لذلك، أجد أنّه ينبغي علينا، إن أردنا أن نحذوَ حذوهم، وتحديدًا في مجال الكتابة، التأكُّد أوّلًا إن كنّا بالفعل نُجيد الإمساك بالقلم، ونستطيع القيام بواجباته التي تقتضيها الأمانة؛ من ذلك، بالطبع، أن يكون لدينا ما نقوله، ويستحقّ القراءة؛ وهو أمر يمكن بسهولة التأكُّد منه، من خلال العودة إلى سجلّ قراءاتنا، بحثًا عن تحقيق المعادلة التي ما انفكّ يكرِّرها الدكتور حسن النعمي، الناقد السعودي المعروف، وهو يحثُّنا على أن نكتبَ مرّة ونقرأَ عشر مرّات، بمعنى أن نقرأ عشرة أضعاف ما نكتب.
هذه المعادلة البسيطة، ذكر ما يشبهها أيضًا الدكتور غازي القصيبي، عندما سأله أحد معجبيه إن كان باستطاعته هو أيضًا (أي المعجب به) تأليف كتاب مثله، فأخبره عندها القصيبي أنّ كلَّ صفحة من كتبه كانت نتاج ألف صفحة قرأها. الشاهد هنا، أنّه ينبغي علينا القراءة قبل التفكير في الكتابة؛ فهي في النصّ القرآنيّ، وبالاتّفاق مع جميع الكتّاب المبدعين، تُعَدّ الوقود الحقيقي واللّبنة الأساسيّة لأيّ مشروع كتابيّ مستقبليّ ناجح، وأكثر من ذلك، لأيّ مشروعٍ حضاريّ في شتّى الميادين.
كما ينبغي علينا معرفة الأسلوب الأمثل في القراءة، واتّباعه؛ نعني بذلك، القراءة المتأنّية الفاحصة، التي يعلق منها الكثير في أذهاننا، بالضبط كما أَخبرَنا الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي، حين قال: «لا أندفع في القراءة كأنّني في سباق، بل أعيد قراءة الأجزاء التي أعتقد أنّها الأهمّ حتّى أفهم مغزاها» (انتهى كلامه). فلا جدوى في كثيرٍ من القراءات التي لا يعلق شيءٌ منها في أذهاننا، وتمنحنا سجلًّا وهميًّا للقراءة، لا ينعكس على حواراتنا أو كتاباتنا وثقافتنا، وهو النهج الذي بات كثيرون - للأسف - ينتهجونه، وذلك بإعلان أسماء الكتب التي انتهوا من تصفُّحها خلال فترة زمنيّة محدّدة، وربّما أخْذ الصور التذكاريّة بجوارها، ونثرِها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ أو الاشتغال على أقوال منقولة لكبار الكتّاب والفلاسفة، وتداولها في ما بينهم. فهم، في صنيعهم هذا، مثل الحمار يحمل أسفارًا - وفق التشبيه القرآني العجيب - إذا قارنّا كلّ ذلك بما يظهر عليهم من جهل وضحالة فكر؛ في وقت لم يكونوا بحاجة لكلّ ذلك الهراء، إذ كان ينبغي عليهم، حتّى يجنوا ثمرة ذلك الجهد المضني، استبدال التصفُّح بالقراءة، بمعنى الاستعاضة بالكيف عن الكمّ، فيدرك حينها الجميع قيمتهم الثقافيّة والأدبيّة، وربّما ينقلون عنهم، دون الحاجة إلى النظر في تلكم الصور.
ينبغي علينا أيضًا أن ننطلق في مشروعنا التنويري، من شغف حقيقيّ بالقراءة، لا أن نتّخذها وسيلة لتحقيق رغبتنا في الكتابة؛ إذ إنّنا، في هذه الحالة، لن نجني سوى الجهد والتعب؛ فالافتتان بالعمل يشكِّلُ جزءًا مهمًّا من الإتقان المطلوب، وأقول جازمًا: كان الشغف، بعد إرادة الله، سببًا في كلّ النجاحات التي حقّقها صديقي صالح، وسيفقدها يقينًا إذا فَقَدَ هذا الانتماء العاطفي، أو أصبح الأمر بالنسبة له مجرّد تجارةٍ مربحة، أو حضورٍ دعائيّ مميّز، أو حملة علاقات عامّة، كما حدث مع عالم الفيزياء الأمريكي الشهير «ميتشيو كاكو» الذي تحوّل، في نظر علماء الفيزياء الكونيّة، وفي مقدّمتهم البروفيسور العراقي الكبير «محمد باسل الطائي»، إلى مهرِّج لا علاقة له بعلم الفيزياء، عندما حاد عن طريق العلم التجريبي، ونظريّاته المُحكَّمة، وانشغل بأضواء الفلاشات وإغراء الدولارات، حتّى وصل به الحال إلى عدم الخجل من البقاء على الساحة، حتّى يومنا الرّاهن، رغم ظهور زيف زعمه بأنّ العالم سيفنى ويزول عام 2011م.
لا أعلم لِمَ شعرت بغصّة في حلقي عندما أبدى صديقي صالح إعجابه الكبير بمسودّة هذا المقال, كانت ابتسامته الرائعة وقتها مشرقة، بالوهج نفسه الذي كانت عليه أيّام الجامعة. كان ذلك قبل أن يعيش لحظة صمت، كان خلالها ينظر في عينيّ؛ أخبرني بعدها، على استحياء، أنّه عليَّ دفع مبلغ مئة ريال حتّى أستطيع اللحاق بركب مؤلّفي هذا الكتاب. لوهلة، لم أستوعب ما قاله، واخترت، أنا أيضًا، الصمت لبرهة، ثمّ قلت له بعدها، إنّه ينبغي عليه هو كذلك الاهتمام بفنِّ «اليَنبغيّات»، فهناك ما ينبغي على أيّ قائد فعله، وما لا ينبغي فعله، إن أراد لمشروعه النجاح. قلت له أيضًا، بنبرة هادئة، إنّ الانشغال بالربح المادّي هو أوّل خطوات الفشل التي ينبغي على المُنتج التحرّز منها.
لا أعلم إن كان لنصائحي تلك دور في اختياره هذه المقالة لتكون مقدّمة لكتابه، ولكنّه فَعَل، وأخبرني وهو لا يزال مبتسمًا، أنّني مُعفى من الرسوم، فالمقدّمة شأنها مختلف تمامًا. سألني بعدها، ونحن في طريقنا للمغادرة، إن كنت أتّفق معه على أنّ هناك فئة من الكتّاب يتكسبون من كدّ أقلامهم.