د. شاهر النهاري
لا شك أن ندرة الغناء بصيغه القديمة، بوقوف المغني أمام الجمهور بعد شهور من اختيار الكلمات واللحن والتدرب والتحضير والاستعداد والمراجعة، هو ما جعلنا نعرف عمالقة مثل أم كلثوم وفريد وفايزة أحمد، ووديع الصافي، وعبد الحليم ونجاة وفيروز ومحمد عبده، ووردة، من كانوا يحترمون المسرح، وجمهوره، ولا يظلون يصولون ويجولون فوقه متمايلين راقصين، ولا بتهييج التصفيق، بل كانوا يتضايقون حينما يغني معهم الجمهور، الذي من المفترض أنه اشترى التذكرة وحضر ليشنف أسماعه، ويتلذذ باللحن والكلمات والأداء الرفيع وكل بحة، وكل طلعة أو نزلة، يقوم بها صوت المغني تناغما مع الفرقة، التي نشعر بأنها بعظمتها وانسجامها شريكته المتابعة المتناغمة، حتى في هفواته إن حدثت، ليصبح المردود الغنائي أعذب وأجمل من مجرد الترديد.
المغنون كانوا ندرة يتنافسون في التميز، فلا يشبه أحدهم أحداً غيره، في اللون والقدرة وطبقة الصوت، والإبداع، وكان الجمهور حريصاً على تسمع الأعمال الغنائية من أصحابها، وتمييز كل حفلة، ودون خلطها مع تسجيل الأستديو.
جمهور حفلات غنائية من «الذويقة»، القادرين، يفضلون كراسي الصف الأول، ليستمتعوا بمصدر الصوت وشفافيته وحلاوته وعظمة الانسجام بمنتهى السلطنة، والتمييز بين مقطع، ومقطع، حتى ولو كان مكرراً، كونه يحتوي على الكثير من التجدد والموهبة والقدرة على تطوير وتنويع الأداء، لدرجة الندرة.
كان هذا يحدث، حينما كان المستمع الذويق، القادر يتعنى وعثاء السفر، ليقف مباشرة أمام مطرب أو مطربة، ويفتخر بأنه حضر حفلة من عجب الطرب.
واليوم، لا تحدثني عن طرب، حيث تكهرب المطربون، والمطربات وأصبحوا بعدد شعر الرأس، الذي يقف لو قدر له سماع الصوت، دون دمج وتحسين تقنية، وما يمسى بـ»البلاي باك»، أو الغناء المخزن على الأجهزة الموسيقية، والتي تغني نيابة عن المغني، المكتفي بتحريك شفتيه، وهو ملتصق بميكرفون، يظهر للحاضرين أنه يغني بسلطنة، متشبثاً بعمليات التجبير والترميم والكسر، والتغليف، والتظهير، بأكثر وأجمل من حقيقة الإمكانيات الطربية، وأعذار البليد تعداد الحفلات المجدولة، وقسمة الوقت بين السفر، والنزول بالفنادق، وتبضع الملابس والتجهيزات، واختيار المكياج، وتنويع قصات الشعر، والكحت والتلميع، وكثير من الحشو، والشد، والنفخ، والظهور على مواقع التواصل، مما أصبح أهم عشرات المرات، من التدريب، والجلوس مع الفرقة والملحن، وتأكيد التناسق مع الكورال، سعياً لصالح المستمع، وليس للسلق والتدليس، وإبهار الوجه والجسد ولمعة الظهور.
الفنانون يتكاثرون بالتفريخ يومياً، والتخرج من مواقع التواصل، فيغني كل من استطاع الدندنة ولو في البانيو، وينصب نفسه مغنياً ودون معرفة بالمقامات والنوتات، ولو أن الأغلبية العظمى منهم يتم تفصيلهم على مقاس مطعم، يقفون فيه بين شوك وملاعق وصحون، وهم يرددون أغاني غيرهم، إمعاناً في تشويه المذاق، ما يجعل الزبون، يطلب طبق «سد الحنك».
الندرة كانت لذيذة أيما لذة، والكثرة جعلت المغنيين والمغنيات أكثر في مرات عديدة من المتفرجين.
البعض يغني وهو يستعرض عضلات حنكه بالصراخ الشبيه بالأوبرا، ويزعج الأذن العربية، مهما كان اسم الفنان مشهوراً، كونه يعامل كل الألحان بنفس القوة العضلية، ونفس النشاز، متحديا الآلات والأجهزة، التي تحاول أن تعيده لخط اللحن، وطبيعة الكلمات، وطريقة الأداء، فتفشل، ليثبت في السوق نهج نشازه.
الأذن الموسيقة موجودة لدى كثير من النقاد، والموسيقيين الحقيقيين، ولكن المجاملة، تطغى، وكل يقول: لماذا أعاند التيار، وأنتقد مع وجود هذه الأعداد من المتابعين للفنان، ومن العشاق، الذين يحرقون مواقع التواصل بالمديح، وكأنهم جابوا البلبل من لسانه.
البعض منهم ينسى نفسه، فيغني في مسرح فيه ألوف، وكأنه يغني في استراحة، أو حفلة عيد ميلاد، وينسى حتى كلمات أغانيه، ويظل يتتبع الكورال، لعله يهتدي للحن، وربما يطلب من الجمهور أن يصفقوا أكثر، وأن يقوموا بالغناء نيابة عنه، وأن يهزوا أجسادهم، وكم يكونون أكثر إحساساً بالكلمات واللحن، وهو مبتهج يبتسم بسعادة، كونه نجا من الورطة.
البعض يحاول كسب السوق، فيغني الأغاني الرائجة، حتى لو كانت بلهجات غير لهجته، وحتى لو كان يُكَسِر الكلمات، ويلعن خير البحور والمقامات، المهم ألا يفوته رواج ومصنعية السوق الحالي، متخطيا شعور وروح الكلمات، التي تصبح بين فكيه لغة معاقة مشوهة.
البعض أغانيه حماسية، والطبول تجد مجالها، والأوراك تدخل عمليات مساج، والمطرب يصفق، ويطلق النكات، أكثر من خضوعه للحن، وإظهار معاني الكلمات.
البعض يعتبر مطرب معلبات، يجيد الغناء في التسجيل بالأستوديوهات، ولكنه حينما يقف أمام الجمهور يصاب بالرهاب، ويظهر الضعف، ولولا المهدئات، والتقنيات المخادعة لما اعتلى الخشبة.
كثير من التشابه يحصل، في الأشكال، والأصوات، وحتى في طرق الأداء، مع طغيان الكثرة، فلا تعود تعرف من يغني، إلا بالعودة للشيخ قوقل، وقد يصاب بالخلط، فيعطيك أسماء لا وجود لها تبعاً للكثرة الضارة.
تطور التقنية جعل الأغاني تطاردنا، ليس فقط في التليفزيون، والإذاعات، ولكن في السيارة، والهواتف، وحتى في الفرن والثلاجة، ومن ألعاب الصغار، تظهر الأغنيات لتفقدك الإحساس بالندرة، ولا تعود تفكر بالأداء وقدرة الفنان، ولا حتى كلمات الشاعر، التي أصبح بعضها، وخصوصاً ما يدفع فيها الشاعر للمطرب، أقرب إلى الكلمات المتقاطعة، والتي يفشل في حلها.
أنا هنا أتحدث عمن يطلق عليهم مطربون ومطربات، ولا أتحدث عن مجانين الرقص العبثيين، والمهرجانات، ولا من يظلون ينطنطون على خشبات المسرح، وكأنهم في منافسة مع قدرتها على تحمل ثقالة ظلهم، ومساختهم.
قد يدّعي البعض أن المقال نظرة تشاؤمية، وأنها إساءات لأصوات لها ملايين من المتابعين، ولكن الحال منتفخ بخميرة، والسوق عجقة، والبائع يشتري، والشاري يبيع، والكثرة تطغى على أي ندرة، وقريباً سيستغل الغرب أحوالنا، ويصنع لنا روبوتات مغنية، ووجوهاً وأجساداً جميلة راقصة، وذاكرة مؤصلة أفضل من الموجود، غنية بكل فنون وأصول الغناء، فلا نتمكن من إعادة الأذن العربية لبعض صفاء الصوت، وروعته، بضمان عدم تهتك طبلة الأذن، ولا جرف العواطف والمشاعر من الأنفس بسيل الركام، وغزارة غيوم السخط.