د.محمد الدبيسي
(الحلقة الأولى)
يُعدُّ الشيخ محمد الطيب الأنصاري (1296- 1363ه=1879-1944م)، أُنموذَجًا لهيأة العلم وكينونته في المنبر الأول للعلم بالمدينة المنورة: المسجد النبوي الشريف، وذلك في حقبة القرن (الرابع عشر) الهجري. الذي كان قرن التَّحَولات والتغيرات في المدينة المنورة، إذ شَهدت خلاله (ثلاث) حكومات، كان أطولها الحكم العثماني، وأقصرها الحكم الهاشمي، وأدومها العهد السعودي الزاهر، الذي انضوت المدينة المنورة فيه عام (1344هـ=1925م). وكان لكلِّ عهدٍ قضاياه وتياراته، وله مُحَصِّلَاته التي تأثَّرَت بالوقائع والمتغيِّرات التي شهدتها تلك العهود، في شؤون السياسة والإدارة، والثقافة والمجتمع، وفي أحوال العلم والقائمين عليه، والمعنيِّين به.
ولم يكن الشَّأن العلمي بمنأىً عن تلك الأجواء والمُؤثِّرات، ولا جميع العلماء خُلَّصًا من التَّأثُّر بما جرى بالمدينة المنورة خلال تلك العهود، مهما كان بعضهم مُنحازًا إلى محافل العلم وقضاياه، مُلتزمًا حدوده وشروطه، مُخلصًا له، وحريصًا أن يكون الشَّأن العلمي على مسافةٍ ممَّا كان يدور في أَروقة السياسة ودوائرها. فأَفلَحَ أولئك البعض في أن يكون مَسَاس السياسة وتحولَّاتِها بالعلماء؛ دون جوهر المسألة العلمية وأركانها، وقِيَمها، والقائمين عليها.
ونجد بعض العلماء المدنيِّين الذين كانوا كذلك، حين تَجَلَّى أثرهم العلمي وأثمَرَ وأفادَ، وظهرَ صداه الثقافي والاجتماعي. كما هو شأن الشيخ الطيب الأنصاري -رحمه الله- الذي كان من زُمرة العلماء الذين ساسُوا أنفسهم بالحكمة والمسؤولية، واتَّخذ نهجًا قويمًا ومنهجًا سديدًا، في القيام برسالة العلم خير قيام، وأتمَّه.
ويتَأتَّى لمن يُطالع كُتَبَ التراجم والأعلام، التي عُنيتْ بعلماء المدينة المنورة، في القرن (الحادي عشر) إلى (الرابع عشر) الهجري؛ أن يلحظ وفرة أولئك العلماء وفاعلية دورهم، واستمرار حِلَقِ العلم، وتنوُّع مدارسه. أو كما رَصَدتْ ذلك الدراساتُ العلمية، التي تناولت سِيَرَ علماء المسجد النبوي خلال تلك الحقبة، الذين اتَّخَذوا المسجد النبوي الشريف مشهدًا للعلم والتربية، أو الوعظ والإرشاد، فأَسهموا في نشر العلم والمعرفة، والعناية بهما، على مدى تلك القرون والعهود والحقب.
فيما كان ثمَّة أحوالٌ مؤقتةٌ، وظروفٌ قاهرةٌ عابرةٌ، مرَّتْ بها الحياة العلمية في المدينة المنورة، ومسجدها الشريف؛ قلَّتْ خلالها حِلَقُ التعليم فيه؛ بحسب ما لاحظه بعض العلماء المدنيين، أو الرَّحَالة، والزَّائرون العابرون، وسجَّلوا مظاهره، كما سيمرُّ بنا. غير أنَّ المَدَّ الثَّر للحياة العلمية في المدينة المنورة، كان أمضى وأقوى من أن يتوقف، أو تُعدَمَ آثاره البَتَّة بسبب تلك الظروف.
ويعدُّ الشيخ محمد الطيب الأنصاري؛ آيةً من آياتِ ذلك المَدِّ والامتداد، وهو الذي عاصر العهود (الثلاثة)، وأصابته بعض ظروفها في غير جانبٍ من جوانب حياته. وبالرغم من أنَّه لم يكن العالِم الأبرز في جيله، إلا أنَّه كان الأبلغ أثرًا في تلاميذه، الذين هُمْ مَدعَاةُ شهرته ومَحطُّ تميُّزِه عن غيره من العلماء.
ومن ثمَّ فإنَّ أثرَ الطيب الأنصاري العميق في الحياة العلمية بالمدينة المنورة، لم ينتهِ بوفاته، بل استوت تجلِّياته واستدامت خلال حياته، وبعد وفاته. وكان تلاميذه هُمْ أثر تلك المدرسة الأنصارية الخالد، وهم امتدادها الأبرز وشاهد أهميتها، وبرهان فاعليَّتها التي تكوَّنت خلال (ثلاثين) عامًا، من حياة الشيخ ثريَّة النَّوال.
وكان الشيخ محمد الطيب الأنصاري -رحمه الله- قد قَدِمَ إلى الدِّيار الحجازية مُهاجرًا من بلاده الإفريقية (مالي)، بصُحبة نفرٍ من أقربائه وأبناء عمومته، عام (1323هـ=1905م)، وكانت مكة المكرمة أُولى الحَواضِر الحجازية التي نَزَلها، وأقام بها عامًا ونصفًا. ثمَّ استأنفَ طريق هجرته قاصدًا مُبتغاه: المدينة المنورة، وكانت البلدة الطاهرة كما هو شأنُها اللَّازم الدائم؛ مَحجَّةً لكل الباحثين عن القرار والمُطمَأن، والأُنس بالجوار الكريم، ومسجدها النبوي الشريف واحةً للعلم والهداية والنور.
واختار الشيخُ في أول عهده بالمدينة المُقامَ في (حارة ذَرْوان)، كشأن عامَّة أهل البلدة الطاهرة، وقاصديها، يُؤْثِرون المواقع الأقرب إلى المسجد الشريف. فكان أن لَبِثَ بضع سنين مُنطويًا على نفسه، منقطعًا للعبادة وتلاوة القرآن، والجلوس بين يدي العلماء؛ حتى بدأت نُذُر الحرب العالمية الأولى ومُقدِّماتُها، ثمَّ تبعاتها من الحصار والجوع، منذ عام (1334هـ=1915م)، حتى منتصف عام (1337هـ=1919م). وأثناء تلك المُدَّة، كان في عهدته فِتيةٌ أيتامٌ ضعافٌ خشيَ أن يمسَّهم سوء؛ فاتَّخذَ مكة المكرمة مقصِدًا وملاذًا برعايةٍ وحمايةٍ من الشريف علي بن الحسين، قائد الجيوش العربية ضد الأتراك في تلك الحقبة. وأقام في مكة المكرمة في (حارة القِشَاشيَّة)- القريبة من المسجد الحرام- حوالي (عشرة) أشهر. وعندما انفكَّ الحصار، آبَ الشيخ بصُحبة رفاقه إلى المدينة المنورة، واتَّخَذ (حارة الرُّومِيَّة) - القريبة من المسجد النبوي الشريف- مقرًا لسُكناه.
جاء الطيب الأنصاري إلى المدينة المنورة، وهو في حوالي (السابعة والعشرين) من عمره، عالي الهِمَّة متوقِّد البصيرة، مُدركًا جلال الأمر الذي نذر نفسه له، مُتوفِّرًا على ذخيرة من العلم والمعرفة، وطَّنَت في نفسه الإيمان بالمبدأ، والنِّضَال لأجل قضية، وزادٍ غير يسير من تجربة الكفاح، والتَّحرُّر من الظلم، وتحرير بلاده (مالي) من براثن المستعمر الفرنسي. وبذلك أدرك قِيمَ العدالة وآمَنَ بها؛ فتحرَّرَ من مرحلة الصِّبا إلى مرحلة الشباب، وانتقل من الجهاد في الحرب، إلى الجهاد بالعلم، منطويًا على العزيمة الحرة، والهِمَّة السَّامية، والإيمان القويم.
مُحتشِدًا بما ربَّاهُ عليه والده العالِم العَلَم الوَرِع العابد الزَّاهد، من مبادئ ومُثُل، ثمَّ أخواله وأبناء عمومته، وعلماء بلدته الذين غرسوا فيه مبكرًا فضيلة طلب العلم، وعزَّزَوا في نفسه قِيمَه وركائزه، في فَهْمِ الشريعة وعلومها؛ عقيدةً، وحديثًا وفقهًا وتفسيرًا، وتاريخًا وسِيرَةً، ومنطقًا. وكل ما له صلة بهذه العلوم أُصولها وفروعها، وكذا اللغة العربية وعلومها وفنونها.
ثمَّ توَّجَ تحصيله العلمي على أيدي علماء البلدة الطاهرة، الذين قدَّرُوه حقَّ قَدْرِه لَمَّا رأوا نباهته وفطنته، وحرصه على طلب العلم، والتزوُّد بالمعارف؛ فأجازُوه وباركوا مَسْعَاه وشجَّعوه، حتى اتَّخذَ مكانه بين أولئك العلماء، في (جامعة) المسجد النبوي الشريف، كما يصفُ أُولو العلم والرَّاسخون فيه، قَدْرَ حلقات العلم والتعليم في ذلك المسجد، ومكانتها. إذ كان (جامعةً) بحقٍّ، بما يشي به الوصف من غزارة المعرفة وشرف المَنزِلَة، التي كان عليها من يجلس للتعليم والوعظ فيه في تلك الحِقَب.
وكانت الصَّفوة المُختارة من العلماء الأخيار، يتسنَّمُون مواقعهم في حلقات العلم في الرِّحاب المنيرة في المسجد الشريف. دروسٌ في القرآن الكريم وحفظه وتجويده وتفسيره، وأخرى في العقيدة، والحديث والفقه، والتاريخ والسِّيرة، وأُصول تلك العلوم، وعلوم اللغة العربية وآدابها، والمنطق والفرائض، وسائر العلوم.
وفي تلك الرِّحاب السَّنيَّة، قضى حياته عالِمًا ومُعلِّمًا، وعاملًا مُتعبِّدًا، منذ عام (1337هـ=1918م)؛ مُؤديًا الفروض والنوافل والسُّنَن وسائر الطاعات، ومُستكفيًا وراضيًا بما قُدِّرَ له من مكانةٍ في واحة النُّبُوة والنور. شيخٌ مُعلِّمٌ زكَتْ نفْسُه، وسَمَتْ روحه بعِظَم الرسالة التي اختار تبليغها، فَوفَّاها حقَّها؛ مُفنيًا جُلَّ وقته، وزهرة عمره في سبيلها. حتى وهنَ جسده الذي لم يكن يَحفل بجميع احتياجاته، أو يُشغل بجلِّ متطلباته، فكان يتناول اليسير ممَّا يقيم أَودَه، وبالقليل الذي يستطيع معه القيام بواجباته الدينية والدنيوية، وأداء رسالته.
- (يتبع)