أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
على الرغم ممَّا كان يتَهَدَّد العَرَبيَّ ويتَهَدَّد مالَه من (الذِّئاب) فقد رأى في هذا الحيوان جَماليَّاتٍ أُعجِب بها فصوَّرها في شِعره، كما أضفى عليه أحيانًا أو منحه بعض عواطفه الإنسانيَّة. ولئن كانوا يصفون (الذِّئب) بالغَدْر- وهي صفةٌ ذميمة- فإنَّ الشُّعراء، حتى في مقام وصف غَدْره، لا يُخفون الإعجاب به، في خِفَّته، وجُرأته، وصرامته، وصَبره، وتمرُّسه. وهي قِيَمٌ كان لتجذُّرها في شِيَم العَرَب ومثاليَّاتهم الأثرُ في الإعجاب بها في الذِّئب، حتى لقد أحبَّ أحدهم أن يُسَمَّى ذِئبًا، أو يوصف بصفة الذِّئب، كما رأينا في مقالات سابقة، ممَّا دفعَ شعراءهم إلى تصوير جَماليَّات تلك المُثُل والقِيَم من خِلال الذِّئب. إضافةً إلى طبيعة العَرَبيِّ، الحفيَّة بالجسارة والبطولة، التي كانت تحمله على تمجيدهما، في أيِّ صورةٍ كانا، حتى لو جاءا من ألدِّ أعدائه؛ فالفكرة نفسها هي ما تُعجِبه، صارفًا النظر عن مصدرها أو ضحاياها. حتى إنَّ الأعرابيَّ الذي عدا الذِّئب صباحًا على غنمه، فأكل منها شاةً- اسمها (وردة)، وكنيتها (أُمُّ الورد)- فقال أبياتًا يرثيها، لم تَخْلُ أبياته من لُمَع الإعجاب بحركة الذِّئب، وعَدْوُه في الصُّبح كطالب الوِتْر الذي يُريد اتِّآرًا:
أودَى بِوَرْدَةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ
مِنَ الذِّئابِ إذا ما راحَ أو بَكَرَا
كأنَّما الذِّئبُ إذ يَعْدُو على غَنَمِي
في الصُّبْحِ طالبُ وِتْرٍ كانَ فاتَّأَرَا
اعتامَها اعتامَه شَثْنٌ براثِنُهُ
مِنَ الضَّوارِي اللَّواتي تقصِمُ القَصَرَا (1)
- 2 -
على أنَّ الشاعر الفرنسي (ألفرِد دي فيني Alfred de Vigny، -1863)(2)، في قصيدته عن الصِّراع مع (الذِّئب)- التي يُشبِه سياقها كثيرًا قصيدة (البُحتري)، المذكورة في مقال سابق- كان يهتمُّ بتلك الحِكمة الروحيَّة البالغة التي يستنتجها من موت الذِّئب صابرًا صامتًا دونما شكوَى أو خَوَر، مُعْرِبًا عن إعجابه العظيم بكبرياء الذِّئب الرُّواقية. ذلك الإعجاب الذي ينبع كذلك من مثاليَّة دي فيني وفلسفته الرُّواقيَّة، التي ترى «أن الألم مُطهِّرٌ للنفس، وأنَّه دعامة الشِّعر الأُولَى». حيث يذكر «أنَّه ذهب مع جماعة من الصيَّادين يقتنصون ذِئبًا(3، فرأوا في ضوء القمر جراميز (صِغار الذِّئب) ترقص ثمَّ رأوا الذِّئبة ثمَّ الذِّئب...»(4)، فأنشأ يُصوِّر صراع الذِّئب مع (كلاب) الصيَّادين، واحتماله طعنات الخناجر وطلقات الرَّصاص، ولم يصرخ خلال ذلك صرخةً واحدة. غير أن دي فيني في قصيدته هذه لا يأبه كثيرًا بهيئة الذِّئب، كما كان الشاعر العَرَبيُّ يفعل، بمقدار ما ظلَّ يدور حول المعنَى الفلسفيِّ المشار إليه، في لوحةٍ فنِّيَّةٍ رائعة، تشترك مع قصيدة (الفرزدق) في نفحتها الإنسانيَّة، وإنْ اختلفَتا في وجه الاستنتاج الحِكْمي. يقول:
«أقبلَ الذِّئبُ فأقعَى، ناصِبًا يدَيه،
اللَّتين غَرزَهما في الرَّمل بأظافرهما المقوَّسة.
وقدَّرَ أنَّه هالك؛ لأنَّه بُوغِت،
وقُطِع عليه خَطُّ الرَّجْعَة، وسُدَّت عليه الطُّرُق؛
وحينئذٍ أمسكَ بفَمه المتوقِّد،
أجرأَ الكِلاب، مِن حُلقومِه اللَّاهث،
ولم يُرِحْ فَكَّه الحديديَّ-
على الرغم من طلقاتنا الناريَّة، التي كانت تخترقُ لَحْمَه،
وخناجرِنا الحادَّة، التي كانت تتصالب،
كالكمَّاشات، وهي تغوصُ في خاصرتَيه العَريضتَين-
إلَّا في آخِر لحظةٍ، حينَ رأى الكلبَ المخنوق
يسبقه إلى الموت بزمنٍ طويل، ويتدحرج (مُعَفَّرًا) تحت أقدامه!
تركه الذِّئبُ حينئذٍ ثمَّ نظرَ إلينا.
وقد بقيتْ الخناجر (مُغمَدةً) في خاصرته حتى المقابض،
تُسَمِّرُهُ في الكلأ المغمور بدمه،
على حين كانت بندقيَّاتنا تحيط به على هيئة هلالٍ مشؤوم..
أعادَ النظرَ إلينا، ثمَّ عادَ إلى الاضطِجاع،
وهو (لا يَنِي) عن لَعْق الدَّمِ المنتشِر حول فمه،
ودون أن يَعْبأ بمعرفة كيف هلك،
أغلقَ عينَيه الكبيرتَين، وماتَ من غير أن يصرخ صرخةً واحدة...
وا أسفاه! لقد فكَّرتُ بأنَّني، على الرغم من «الرِّجال»،
أخجلُ ممَّا نحن عليه، فما أشدَّ خَوَرَنا!
كيف يجبُ أن تُودَّعَ الحياةُ وشُرورُها كلُّها؟
أَنْتُنَّ فقط تَعْرِفْنَ ذلك، أيَّتها الحيوانات المحترمة.
فلدَى رؤية ما يصير إليه الخَلْقُ على الأرض، وما يتركونه،
(يُعلَم) (أنَّ) الصمت وحده عظيم، وأنَّ كلَّ شيءٍ غيره خَوَر.
- آه لو عرفتُك جيِّدًا أيُّها الراحل المتوحِّش!
فإنَّ نظرتك الأخيرة نفذتْ إلى قلبي!
كانت تقول:
- «إذا استطعتَ، فاعمل على أنْ تصِلَ نفسُك،
بفضل بقائها مُجِدَّةً مُفِكِّرةً،
إلى هذه الدرجة السامية من الكبرياء الرُّواقيَّة
التي بلغتُها منذ لحظةٍ قصيرةٍ بفضل ولادتي في الغابات!
إنَّ الأنين والبكاء والاستعطاف هي أيضًا جُبنٌ وحقارة؛
فاعمل دائبًا واجبك الثقيل الطويل
في السبيل التي أراد القَدَر أن يناديك إليها،
ثمَّ تجلَّد مثلي بعد ذلك، ومُتْ من غير أن تفوه بكلمة!»(5)
- 3 -
ومن خلال التأمُّل في جَماليَّات تصوير (الذِّئب) في الشِّعر العَرَبيِّ تتبيَّن بعض المقاييس الجَماليَّة المشترَكة بين الشُّعراء في تصويرهم الذِّئب: في لونه، وحركته، وسائر هيئته. وكذلك في: حِدَّة طبعه، وتصميمه، ودهائه، وصَبره، وشِدَّة مِراسه، وحيلته، وتمرُّده، إلى غير ذلك من الصِّفات، التي أُعجِبوا ببعضها، فاستلهموه في رسم صُوَرهم، مستوحين منه التعبير عن المُثُل والقِيَم العَرَبيَّتَين. وفي المقارنة، يتَّضِح، من خِلال قصيدة (دي فيني)، استلهام المعنى الروحيَّ نفسه الذي لفتَ العَرَبيَّ إلى الذِّئب، المتمثِّل في الصبر والتصميم وكبرياء الروح، مع تعميقٍ مميَّز، منحَ الصُّورة لديه أبعادًا إنسانيَّة أرحب.
(1) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 203، 277.
(2) يُنظَر: الحمصي، نعيم، (1979)، الرائد في الأدب العَرَبي: بين 132- 1325ه، (دمشق/ بيروت: دار المأمون للتراث)، 213- 214.
(3) لا ندري لماذا يقتنصون الذِّئاب أصلًا؟! لكنها الوحشيَّة البَشَريَّة المعروفة، والاستمتاع بسفك الدماء والإفساد الأرض! وما زال هذا العبث، من الصَّيد والقنص، ديدن الإنسان في العالم، منذ آدم إلى اليوم، مع انتفاء الضرورات والحاجات!
(4) الحمصي، 213.
(5) م.ن، 214.
- (رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)