(1)... مريض أصيب بالحمَّى الطويلة الممتدة في سراديب الأوردة والشرايين، التي أسقطت يعقوب في أتونها، فاختلط مسارها وتسربها بأوهام وحكايات كثيرة، إن الحمَّى لوحت شرقاً وغرباً وجعلته في حالة هذيان عجيب.. (الرواية ص243).
هذا المريض المحموم، الغائب عن الوعي، والذي يهذي بكلام يختلط فيه الوهم بالحقائق، والسرد الذاتي بالحكايات، قُيِّض له سكرتيرٌ يقظٌ كان يقوم بتدوين كل ما يتفوه به هذا المريض الغائب عن الوعي، طوال اليوم، ثم يسلمه للزوجة (فضيلة) والأبناء (راشد، سعود، زيد) الذين يجتمعون كل مساء، لترتيب هذه الحكايات والكلمات والهذيانات القولية «فقررت الزوجة إخراجها في كتاب جامع عن حبيبها الذي أخلصت له، وأخلص لها منذ اللحظة الأولى لبدء حياتهما..» ص244.
(فضيلة) - الزوجة - ليس لها وعي كتابي، ولا تملك فن السرد القصصي والروائي، ولكنها معلمة، متدينة، وجدت أمامها ملفات وأضابير من الحكايات والهذيانات التي تسرد حياة المريض (يعقوب/ زوجها) وسيرته وترحلاته منذ الطفولة إلى بداية فقده الوعي نتيجة الحمَّى، فقررت أن تخرج هذه الكلمات، فجمعتها وأصدرتها في هذا الكتاب/ الذي سُمِّي - بعد حين - رواية تجنيساً كتابياً حتى لا يضيع بين الأجناس الكتابية الأخرى!!
ولو كانت (فضيلة) عالمة بمضايق السرد، وفنيات الرواية، لكان للإبداع السردي، وفنيات الرواية المعاصرة وشائج شتى في هذه المدونة السردية!!
هكذا أراد الكاتب/ الروائي/ القاص/ خالد اليوسف الخروج من تبعات هذه الرواية نقدياً، ليحيلها إلى هذيان.. وكلام لا واعي.. وجامع غير متقن لفن الرواية. وهذه أولى فنيات العمل الروائي الذي يقدمه لنا خالد اليوسف!!
* * *
(2) والنظرة الناقدة الأولية تقول إنها رواية لا تملك خصوصية الروايات الفنية حداثياً ونقدياً، فأسلوبها سردي تتابعي.. سطحي، ليس فيها دهشة الحكي، ولا فنيات السرد، ولا توجهات الحداثة السردية/ الروائية!! ليس فيها زمكانية مطردة، ولا أسلوبية التنامي الزمني المستقبلي والاسترجاعي، ولا الحضور العتباتي أو النَّص الموازي.. ويعذرها في ذلك أنها من راوٍ غائب عن الوعي، لا يملك هذه الفنيات، أما الراوي العليم فهو يقصد ذلك بوعي سردي متكامل، وقصدية تعريفية على أن عالم هذه الرواية المتخيلة، عالم واقعي له امتداد في بلادنا عبر حقبتها التأسيسية!!
ولكن عند التعمق القرائي، والمداولة الاستنطاقية تجعل الناقد الواعي، يقف على كثير من الملامح الأسلوبية اللافتة، والتماهيات الفنية الحداثوية، والأبعاد الزمكانية التي تتنامى بين ثنائيات الغياب/ الحضور الهامشية/ الشمولية، الواقعية/ الحلمية، الطبيعية/ الميتافيزيقية!! وهذا ما يجعل قراءتنا ومقاربتنا الناقدة تنحو إلى شيء من ذلك إن شاء الله.
* * *
(3) وبطريقة لولبية أو دولابية، نربط - نقدياً - بين نهايات الرواية (القسم 43) وبداياتها (القسم 1-3)، لنجد التكاملية والشمولية في الرصد السردي لهذه الرواية/ المشروع، ومن ذلك نستنتج الخطة المنهجية التي تسير عليها (بدءاً.. ومتناً.. ونهاية) مما يعطينا صورة أسلوبية/ بلاغية ينتهجها الراوي العليم/ خالد اليوسف، لرصد تمرحلات وارتحالات هذا الكائن (النجدي) المدعو (يعقوباً). ولعلنا نتكهن بدلالات وإحالات معجمية لهذه الشخصية المحورية في النَّص الروائي وانبثاقاتها التاريخية والدينية!!
فـ (يعقوب) يحط في ثقافتنا مرتحلاً من كينونته العبرية، إلى سيرورته العربية اسم علم، ورمز تاريخ، وفضاء معرفة يجتازها المنطوق والمسكوت عنه تاريخاً وثقافةً وتراثاً دينياً!!
في (القسم 43)، تشير الرواية والراوي العليم إلى البعد النفسي والواقع المرضي الذي ولدت في ثناياه أحداث الرواية وحكاياتها.. فهي في ظل غيبوبة عن الوعي، وهذيان لا رابط له.. واجتهادات تنظيمية يقوم بها الآخرون ليتحول ذلك كله إلى نصٍّ مقروء/ مكتوب!!
وفي القسم (3-1) تشير الرواية والراوي العليم إلى الأحلام والخيالات التي يستحضرها (يعقوب)، ويلوذ بها من عالمه الحقيقي، لتتنامى شخصيته بين أصداء متعددة ينبجس منها عوالم الراوي والأحلام والواقع والحمَّى، والحقيقي والخيالي، لتتكون - فيما بعد - هذه الرواية متشظية بين واقع حقيقي، كانته ديارنا النجدية في زمن مضى، وشخوصنا الواقعيون في تلك البقعة المكانية!! وبين آفاق خيالية/ سردية/ ثقافية يوثقها الكاتب/ الراوي/ الراصد لتجليات هذه التجربة الحياتية الصادقة واقعاً، والصادمة رؤية ورواية!!
ولنا - بعد ذلك - أن نستقرئ عالمها وعوالمها بين الواقع والمتخيل.. والمكتوب والمغيَّب، والمعقول والمؤمل.. وكل ذلك في ثنايا النَّص الذي بين أيدينا.
* * *
(4) وتظل (الشخصية) أبرز مكونات العمل الروائي (خاصة) والسردي (عامة)، فهي وسيلة الكاتب الروائي للتعبير عن رؤيته، وهي بمنزلة الطاقة الدافعة التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، ولذلك كان الروائي خالد اليوسف مهتماً بخلق شخوص روايته والانتقال بها عبر مجموعة من الحقول التوليدية والاستقبالية لإيمانه بأن (الشخصية) هي القوة المهيمنة في الرواية على مستوى النَّص، ومستوى الخطابة (أيضاً).
كانت الشخصية المحورية/ الرئيسة هي يعقوب الرضيع والتي شكلها الروائي (خالد اليوسف) بمقاييس إيجابية لتقوم بدورها في تنامي أحداث الرواية، فهي شخصية متطلعة لا ترضى بالواقع، وهي شخصية منطلقة، متجاوزة، تسعى للتغير والتنامي والتطور. ولذلك كانت ارتحالاته من قريته (عطوه) وبلدته (زليفات) إلى (عقلة الطينة) ثم (مزرعة العم نافع) ثم (العارض) وما تلا ذلك من ارتحالات!!
ورغم هذه الصور الإيجابية عن هذه الشخصية المحورية/ الأساسية إلا أنها شخصية على سجاياها.. بدائية.. غير متعلمة.. بنت بيئة يضرب الفقر والرجعية أطنابه فيها.. وفي الوقت نفسه شخصية ذات كاريزما بطولية، يبحث عن ذاته ويتسامى على أقداره سعياً وراء تغيير هذا الواقع عبر هذه الارتحالات المكانية والتغيرات الحياتية!!
ولأن العمل الروائي لا يكتمل إلا بوجود شخصيات ثانوية تقوم بدور المساعد لربط الأحداث وتعمل على إكمال المسار الروائي، وكذلك تسلط الضوء لإبرار الشخصية المحورية/ الأساس، فأوجد لنا (الموسويون الثلاثة) موسى الناعم، وموسى البرق، وموسى المطوع الذين آخوه رضاعة.. ووافقوه ترحلاً.. وبحثاً عن واقع جديد.
وكذلك سارت الرواية وتنامت حكاياتها عبر ارتحالات مرسومة بصدقٍ وواقعية، وروح إبداعية/ روائية تجد فيها المعرفة واللذة والدهشة فأنت أمام سيرة عاشها كثير من أبناء الجيل في مطلع الستينات والسبعينات والثمانينات، وتجد فيها صورة وطن ومجتمع يتخلق من رحم المعاناة إلى مسبار التطور والتقدم والرفاهية، ومن حياة البداوة إلى التمدن، ومن الشح إلى الكفاف والرزق الوفير!! وكذلك هي الروايات الصادقة تجعلك كقارئ تعيش تفاصيلها وكأنك أحد شخوصها ومعاصريها.
* * *
(5) وإذا كان للشخوص في الرواية تلك الأهمية في البناء السردي وإمكانات الحكي، فإن للمكان - أيضاً - بُعده (الطبولوجي) الذي أميل إلى تسميته (الفضاء الروائي) لأنه أشمل من قول بعض النقاد (المكان الروائي)، فما (المكان) إلا جزء صغير من (الفضاء) والدلالة فيها من الشمولية والتكاملية ما لا نجده في المكان!!
إن هذا (الفضاء الروائي) الذي يتخلق من واقعيته، وجغرافيته إلى معالم نصيَّة، وعوالم لغوية عبر أساليب الوصف والتقصي والتخييل الإبداعي الذي يجعل القارئ يلمس ويشاهد ويعيش هذه الفضاءات المكانية، وهذا ما نجده في (ارتحالات يعقوب النجدي) التي تجعلنا أمام ثلاثة من الفضاءات الروائية تشكل الملمح الأساسي لأمكنة (الترحلات)، مع إن هناك (مكانات) ثانوية تجيء عرضاً في النَّص الروائي وتحيله إلى جغرافيا متنوعة من (الأمكنة) المساندة أو الثانوية.
إن تلك الفضاءات الروائية تتخلق في دوائر طول وعرض تشي بها الرواية عبر المنظور التالي:
ولكل من هذه الفضاءات دلالتها ورمزيتها وشخصيتها المائزة. فـ(زليفات) الفضاء الروائي الأول الذي يصوره لنا الروائي خالد اليوسف، عبر تمرحلات حياة البطل وحالاته النفسية تجاه هذا (الكائن المكاني) فهي البلدة (الطاردة للرجال وأهلها يعانون المسغبة وسوء الحال لا زرعاً تثمر ولا نخلاً تطلع والأمطار شحيحة) ص26، وهي (أرض غير مخصبة ولا منتجة لا تبقي ولا تذر) ص35.
أما (العارض/ الرياض) فهي الكائن الدلالي، والفضاء الروائي الثاني أهمية في حياة البطل وترحلاته المتعددة بحثاً عن واقع جديد، والتي يصورها بأنها (ذات طرق واسعة، والمباني ليست طينية، وفيها ناس أكثر وعمار جديد والمركبات لا حصر لها) ص36-38، ص49، وأنها (تشرق كل يوم على عالم جديد) ص58.
ثم يأتي المكان الثالث وهو (الكويت) التي ترسمه اللغة وصفاً جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً فهي (مختلفة عن الرياض وفيها انفتاح كبير تقع على رأس الخليج العربي وهي البوابة التجارية، وهي مدينة حديثة وشوارع فسيحة وسيارات بمختلف الأشكال والألوان، بتنوع البشر والأجناس والنساء السافرات، فيها التلفاز والسينما والمسرح واختلاط النساء بالرجال، لا عباءات ولا حجاب، نساء من العراق والشام وفارس والهند، وهي مدينة بحرية وشواطئها مليئة بالرجال والنساء، شبه عراة، وفي أسواقها ما لا يوجد في أسواق الرياض من الأغذية والتموينات الواردة من شرق آسيا) ص ص89-98.
وهكذا كانت الفضاءات النصية/ الروائية، شاهدة على ما يملكه الروائي خالد اليوسف من حدس إيجابي تجاه الفنيات الأسلوبية لخلق الأماكن التي تسير فيها أحداث الرواية وتتشكل فيها شخصية البطل، فهي جغرافية حقيقية، يلبسها صوراً أسلوبية فاتنة، قادرة على نقل الأحاسيس والمشاعر والصور (الإبستمولوجية) إلى ذهن القارئ وجعله يعيش واقعاً معروفاً له، ومتغيراً عما يألفه ويعتاده، لأن اللغة والأسلوب تنقلنا من واقع كائن/ حقيقي إلى كائن متخيل روائي!!
وبالتأكيد هناك فضاءات روائية ثانوية، تأتي كحلية مكانية يستكمل بها جماليات تلك الفضاءات الرئيسة، ويستقصي أسرار الحبكة الحدثية والمتن الروائي لتكتمل الصورة، فهناك: البيوت الطينية، والمزارع، والسيارات، وأراضي البادية، والطرق غير المزفتة، والأسواق. وهناك الظهران والدمام والأحساء، وهناك البطحاء ودخنة والمقيبرة وهناك عطوه الصغيرة، وعقلة الطينة، والبطين الجنوبي، وهناك جبال طويق وأرض الحمادة ونفوذ الثويرات وصحراء الصمَّان، وبريدة وحائل والريدية والقصير وتاروت ودارين والنويصيب والخفجي والزبير والبصرة... وكلها فضاءات جغرافية حقيقية، يلبسها لبوسات لغوية وأسلوبية تنقلها من واقع جغرافي ذي مساحة هندسية/ (طبولوجي) إلى صور ومشاهد وأيقونات تفاعلية روائية.
* * *
(6) وهناك (ثيمتان) مهيمنتان على جملة العمل الروائي الذي بين أيدينا، وهما ثيمة (الفقد)، وثيمة (الهجرة) أو (الترحال)!! وهما (ثيمتان) مائزتان يلمسها القارئ منذ العنوان وأول سطور الرواية.. وعبر أحداثها ومتنها.. وحتى خاتمتها ولها دلالتها ورمزيتها الضمنية.
فالعتبة العنوانية تحمل ثيمة (الهجرة والارتحال) من خلال العبارة: (ارتحالات يعقوب النجدي) والارتحالات في المعجم اللغوي تعني التنقل في المكان والزمان. ولهذا فالعتبة العنوانية تتمشى (دلالة ومضموناً) مع المعنى اللغوي وترتحل بنا من محطة إلى أخرى في ديمومة لغوية، ودلالات زمكانية، ورمزيات أسلوبية، وموضوعات جغرافية، وبيئات متعددة كما سنقف عليه شاهدياً عبر الاقتباسات التالية:
- أهالي زليفات يتشردون بعد المجاعة والهلكة ويتنقلون في الصحاري بحثاً عن الخيرات، ويرتحلون إلى أقصى الشمال عند الأنهار الجارية والأراضي الخصيبة.. ص13.
- بلدة عطوه الصغيرة حلت بها سنوات القحط والمسغبة فأصبحت منفرة/ طاردة/ فتناثر أهلها في بلدات زليفات الأخرى.. ص15.
- يعقوب الرضيع وتنقلاته وارتحالاته إلى ديار أخواله وأبناء العمومة بحثاً عن الأمن والحياة الرغيدة.. ص 19.
- مرافقة الوالد في رحلاته التجارية منذ عمره المبكر واكتشاف عوالم أخرى غير التي يعرفها في بلدته الصغيرة.. ص22.
- قرار الهروب من (زليفات) إلى (العارض) ثم إلى (الكويت)، ودواعي ذلك الارتحال والهجرة.. ص23 وما بعدها.
- الحركة اللولبية، والتداول الرحلاتي ما بين الكويت والرياض والزليفات والعراق بحثاً عن الجديد والمفيد والمختلف (اطلاعاً واستثماراً) ص81، 113، 123 وما بعدها.
كل هذه الانتقالات والرحلات تشكل بعداً جغرافياً ومجتمعياً ويجعل منها (ثيمة) أسلوبية تحمل الرواية وتنقلها من مرحلة الـ(حكي) إلى انصهارات (الفن والأسلوب والجمال الإبداعي).
وأما ثيمة (الفقد) فنجد تجلياتها في مجمل العمل الروائي بصيغ وأساليب مختلفة، لكنها تعطي هذه الدلالة وهذه الرمزية، ويحولها من حالة واقعية متحققة في حياة بطل الرواية إلى حالة أسلوبية/ خطابية/ لغوية تجمل النَّص وترفعه إلى مقام الروايات المائزة.
ومن تجليات هذه الثيمة قول الراوي العليم:
- أمي التي لم ترها وتذق حليبها ولم يدفئك صدرها وحضنها الرحيم.. أنت ترى أمي التي لم ترها.. ص6.
- لماذا ليس له أم كالآخرين.. ص7.
- شعرت بالفناء والعدم.. هددني الموت عند ولادتي والمرض المنتشر في القرية بين النساء.. ص9.
- الموت شريك الأحلام.. رحيل الأخ أبو عبيد والأخ أبو محمد ويأتي الموت زائراً في كل صباح ومساء.. انقرض أهالي زليفات الواحد تلو الآخر في مجاعة ومهلكة.. ص ص 10-11.
- الوفيات وأخبارها بين الأصحاب والأهل والأقارب.. ص120 وما بعدها.
كل هذه العبارات الدالة على (الفقد) والمؤكدة على هذه الحالة الواقعة حقيقة، والمتحولة أسلوباً ولغة روائية، يجعل منها ثيمة تتنامى في النَّص الروائي وتزيد جمالياتها الأسلوبية رونقاً، وفناً ومقروئية.
وبهاتين (الثيمتين) يتنقل بنا الراوي العليم في آفاق الجغرافيا والتاريخ، (مكاناً وزماناً)، وفي آفاق الإبداع (رواية وحكايا)، لنترحل مع يعقوب النجدي في ارتحالات معرفية وتكوينية ولغوية وأسلوبية يتماهى فيها القارئ، والمؤلف، مع شخصيات الرواية وأحداثها ومضامينها في صيرورة أسلوبية/ جمالية/ تغري الناقد بالدرس والتفكيك والتأويل، وصولاً إلى المقاصدية التي يتغياها المؤلف/ الروائي خالد اليوسف عبر هذه المدونة الإبداعية!!
* * *
(7) ومن المعطيات الفنية، والجماليات الأسلوبية التي تشي بها هذه الرواية عبر مضامينها الموضوعاتية، ودلالاتها الموحية، تصوير المجتمع المحلي/ السعودي/ النجدي في السبعينيات والثمانينيات الماضية وكيف كانت قرى نجد وأريافها وضواحيها وارتحالاتها في الزمن والتطور من بيئة ومجتمع يعاني الضيق والمسغبة إلى مجتمع التمدن والتطور وناطحات السحاب والشوارع الملونة، عبر حقبة زمنية قصيرة إذا قورنت بمجتمعات نامية مثلناً!!
أعتقد أنها سيرة وطن، وسيرة مجتمع وسيرة فرد عشناها قراءً ونقاداً ومثقفين في مرحلة سابقة من تكون وتشكل الوطن السعودي، وحتى حالته المؤسفة أثناء سنوات العنف والتكفير والإرهاب والأحزمة الناسفة!! وحتى حالته الراهنة من الأمن والاستقرار والرؤية المباركة!!
نعم إنها سيرة وطن ومجتمع من خلال ثلاث حيوات (حياة الآباء، والأبناء، والأحفاد) أو ثلاثة أجيال (جيل الابن والأب والجد)، وسيرة أمة ارتقت من الماضي حيث الكفاف والشح والحاجة إلى الحاضر حيث طفرة البترول وحياة التطور والتمدن والانتماء، وكذلك سيرة (فرد أو أفراد) تحولت حياتهم المعيشية من فقر وهروب من البيئة التي يعرفونها إلى بيئات جديدة وحديثة ومعالم تطويرية لم يألفوها فتحولوا - بعد ذلك - إلى رجال أعمال، وأصحاب مؤسسات غذائية، وقادة أعمال خيرية وثقافية، لهم أثرهم ودورهم في التطور والتمدن الاستثنائي.
كل هذه المعالم.. والعوالم الوطنية والمجتمعية نجد شواهدها في مجمل الرواية وعبر فصولها ومحاورها الـ (43) وسنختار منها ما يؤكد تجلياتها المضمونية، وأيقوناتها النصيَّة، وتفاعلاتها اللغوية، فيما يلي:
# التشرد في صحاري نجد الشاسعة، في السنين القائظة التي جفت فيها الأرض وتساقطت النخيل الواقفة، فطردت البلدان أهلها إلى بلدان أخرى.,. ص ص13-14.
# لكن مؤكد أنكم لا تحملون (تابعيات) لأن أعماركم أقل من النظام.. ص57.
# هذه الرياض يشرق صباحها في كل يوم على عالم جديد.. ص58.
# البيت ليس فيه كهرباء، وفي قسم الراديوهات وجدنا منها الذي يعمل على البطارية واقتنعنا بشرائه.. أحدث الراديو في جلستنا المسائية تغيراً كبيراً.. سمعنا فيه ما كنا نعتقد أنه كالأحلام والخيالات والرؤى، سماع الأخبار والأغاني والأحاديث والحوارات، ووجدنا فيه فائدة وتسلية لم نكن نتوقعها.. ص ص61-62.
# موسى الناعم واستقراره في الكويت.. أخبرني عن المجتمع هناك وعن فرصة الحياة المختلفة عن الرياض ومعيشتها والانفتاح فيها فأقنعني بالسفر معه.. استخرجت جواز السفر.. ص80.
# وفي الكويت رأيت مدينة حديثة وشوارع فسيحة والسيارات تجوبها على اختلاف أشكالها، رأيت أناساً مختلفي الألوان والأشكال الأحجام، رأيت أمكنة يزورها الرجال والنساء.. ص83.
# الرياض لا تختلف عن زليفات في انغلاق الأزقة والشوارع والبيوت.. معظم النساء التففن بعباءات سوداء.. الرياض مدينة محافظة يتسلل النوم إليها بعد صلاة العشاء مباشرة، عمالتها من الإخوة اليمنيين.. ص ص 89-90.
# الرياض التي أراها أمامي ليست هي الرياض التي غادرتها.. الرياض كل يوم تتغير وتتحول وتتسع وتتمدد، تستبدل ثوبها القديم بثوب جديد.. كانت (الناصرية) هي آخر حي في شمال الرياض وهاهي اليوم تدخل ضمن الأحياء الداخلية.. ص53.
# في الكويت رأيت التلفزيون لأول مرة، أما السينما ففي كل نهاية أسبوع نذهب معاً أنا وموسى الرملة نشاهد أفلاماً جميلة وجديدة من مصر ولبنان، وعرفت المسرح، ورأيت النساء واختلاطهن بالرجال بملابس حاسرة لما فوق ركبهن وشعورهن بأشكال مختلفة.. النساء هنا فوق الرؤى والأحلام.. ص90-91.
# أثناء هذا الصيف حدث ما لم يكن في الحسبان فقد تم غزو الكويت من القوات العراقية واهتزت بلادنا لهذا الأمر وخرجت وبعض إخواني إلى الحدود السعودية الكويتية لغوث من تواصل معنا.. وجدت المئات الذين هربوا من بربرية الطغاة، ساعدنا من نستطيع مساعدته وعدنا إلى الرياض ووقع المأساة والفجيعة على وجوههم.. ص113.
# وفي الرياض وأثناء ترجلي من السيارة وأهم بالدخول إلى العمارة فإذا بصوت انفجار هائل يهز المنطقة ويسقطني متدحرجاً أمام العمارة.. ص228-229.
# انفجار إرهابي وقع في مجمع للعسكريين تُوفي منهم سبعة والإصابات بالعشرات.. ص23.
# ما يجري في الرياض من تفجيرات غريب علينا - يا ترى ما الذي أوصل شبابنا إلى هذا المنحنى والتفكير في التكفير لكل أهل الوطن ومن يقيم بيننا.. ص231-234.
هذه شذرات من الفضاءات النصية/ اللغوية عن التحولات المجتمعية وسيرة الوطن وحياة التنامي والتطور، لكن تظل (زليفات) هي صاحبة الأثر والتأثير على شخصية بطلنا (يعقوب النجدي) فلا زالت الصورة الضبابية والعدائية هي المسيطرة على فكره وتوجهاته رغم كل التحولات والارتحالات يقول عنها:
# حاولت أن أنسى بلدتي التي طردتني، بلدتي التي لا تعرف إلا الموت مصيراً لأهلها، بلدتي المهلكة الهالكة، الموجعة الجائعة، المقلقة المتشائمة، بلدة تتوشح دوماً بالسواد... ص193.
# زليفات طاردة لي وللعشرات من فلذات الأكباد، وقد علمت أنها شردت من يقتني مذياعاً صغيراً.. ص126.
# إنها أرض التباعد والانعزال والفردية والذاتية الكبرى.
ومع هذه الصور السلبية عن بلده (زليفات)، إلا أنه يشير إلى شيء من مواقفه الإيجابية تجاهها فهو يرسل مع من يزورها إلى أقاربه وجيرانه بعض الهدايا والعطايا.. ص78.
وفي أواخر حياته أعلن عن تحويل الأرض الموجودة في زليفات والتي كانت مهيأة لمشروع السوبر ماركت إلى مشروع خيري متكامل أهمها مركز الفضيلة الثقافي وهو نسخة من مشروعه الأساس في الكويت.. مع جامع كبير ومركز صحي ومدارس لتعليم القرآن.. ص240-241 ورغم ذلك لم تتغير الصور السلبية عن (زليفات) ولم يشر إلى التمدن والتطور فيها!!
* * *
(8) وختاماً.. فليس لنا - كنقاد - إلا أن نزداد سعادة مع (يعقوب النجدي) الذي ختم حياته بسعادة لا توصف بسبب أعمال الخير التي وُفق إليها، والنجاحات المتتالية التي حصدها، وأنه كلما قدم على عمل خيري جديد انفتح عليه باب رزق جديد، وجاء المال إليه من غير أن يسعى له.. ص241.
وبالتأكيد فقد أحسسنا بسعادة كبيرة ونحن نقلب صفحات هذه المدونة الإبداعية/ الروائية، ونتعايش مع ارتحالات يعقوب النجدي، وتجليات خالد اليوسف، ونفتق رموزها ودلالاتها وتكاشف موضوعاتها ومتنها الحكائي، ونتلمس جمالياتها وفنياتها الأسلوبية واللغوية ومساراتها الروائية، وإن كانت لنا بعض الملاحظات النقدية لعل فيها تلاقحاً للأفكار وتطويراً للعمل، وتثاقفاً إيجابياً:
أولاً: عدم توظيف المفردات المحلية/ الشعبية، و(فصحنة) الكلمات رغم القدرة على ذلك والفضاء المتأتي لهذه التقنية الروائية مثلاً كلامة (المقيبرة) = (المزيبرة) (حرف بين الجيم والزاي)!! ص49.
رايتك عالية = رايتك بيضا ص 40.
تفضلوا = اقلطوا ص46-50.
أهلا بأخي... = أهلا بخوي ص100.
ثانياً: عدم استخدام اللهجة اليمنية في الحوار الدائر بين بطل الرواية وإخوانه والعامل اليمني في المقهى.. ص51-53.
ثالثاً: النهاية والخاتمة والقفلة الروائية غير المتوقعة فاختيار الكويت مقراً نهائياً لبطل الرواية غير مقنع نقدياً، وكان الأجدر أن تكون (زليفات) هي المستقر الأخير للابن الهارب والخارج عنها بسبب ظروف المعيشة!!
رابعاً: الصورة السلبية التي رسمها بطل الرواية عن بلدته (زليفات) رغم التطور التي عاشته حقيقة وواقعاً، وعدم الإشارة إلى هذا الأمر!!
خامساً: الفصل أو المحور رقم 36، يشعرنا - كقراء ونقاد - بأنه نشاز عن الفضاء الروائي فلا علاقة له بأبطال الرواية (الموسويين) الثلاث، وليس له تماس مع أحداث الرواية وموضوعها الأساس ولو أسقطناه من الرواية لما تأثرت حبكتها ولا مسارها البنائي.
ومع هذه الملاحظات النقدية، إلا أن جماليات الرواية تستدعي أن نقول إننا إزاء عمل إبداعي يختطه خالد اليوسف ليضيف إلى مدونته القصصية والروائية عملاً متماسكاً ذي رؤية جديدة وفنيات معاصرة ولعل أجمل ما لفت نظري ما يلي:
أولاً: التقسيم والتفريع الرقمي للرواية وبناءها النَّصي وفضاءاتها الخطابية قصيرة المدى والمقروئية ففيها تحفيز وجذب للقارئ، واستنهاض للهمم القارئة والتواصل الثقافي.
ثانياً: الملامسة (الآيروتيكية) في بعض فصول ومحاور الرواية بشكل جمالي وأسلوبي ليس فيه فحش أو معاني جنسية واضحة، لكنها لقطات معبرة وذكية ومقبولة كما في الصفحات 65، 66، 73، 74.
وهناك الكثير والكثير من الجماليات نتركها لفطنة القارئ، وللقراءات والمقاربات النقدية لغيرنا من النقاد والدارسين!!
وبعد: فقد كنا في سياحة ناقدة، وقراءة تتبعية، ومقاربة جمالية، مع مدونة روائية/ سردية أبدعها خالد أحمد اليوسف، وأصدرها مطبوعة عام 2023م عن دار الانتشار العربي. ولعلنا أضفنا إليها شيئاً من التأويل والمثاقفة والتفتيق النصِّي الذي يكاشف المخبوء، ويتواصل مع الملامح والدلالات، وصولاً إلى القراءة الإيجابية.. قراءة التأمل والمكاشفة والتأويل.
والحمد لله رب العالمين.
عصر يوم الأربعاء 29-1-1445هـ
وكانت البداية عصر يوم السبت 20-12-1444هـ.
** **
- د. يوسف حسن العارف