ابتهج المثقفون أو غالبهم بخبر توقيع وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان مع رئيس مجلس إدارة مجموعة «إم بي سي» الشيخ الوليد بن إبراهيم البراهيم، اتفاقية تشغيل قناة تلفزيونية تحتفي بالثقافة؛ لترسيخ مكانة المملكة ثقافيًا، وتحقيق أهداف رؤية السعودية 2030 في شقها الثقافي الحافل. ومن الموافقات اللافتة أن يتم هذا الاتفاق الجميل في عهد الملك سلمان البصير بالثقافة وأهلها، وأن يتماشى هذا الجمال مع رؤية ولي العهد لبلادنا، وينجزه أول وزير للثقافة المستقلة عن أيّ جهاز آخر، وإن الثقافة السعودية لفي منزلة عليا سامية، وهي الشامخة التي تستأهل الاهتمام والتفرغ لها.
ثمّ كان من التوفيق لإحياء هذا المشروع إسناد مهمة إدارة القناة الجديدة إلى الأستاذ مالك الروقي، وهو إعلامي ذو إطلالة لافتة، وممن أحسن تهيئة نفسه، حتى أثبت نجاحه الثقافي والإداري في أحد أهم البرامج الحوارية والتوثيقية العربية. والمأمول أن تتحد الجهود لإنضاج هذا المشروع، وإنجاحه، وتطويره، وتحرير الثقافة من سطوة الإعلام، ومن محاولة الزحف عليها من قبل أجهزة أخرى لها مجالها الخاص، مع تقاطعها مع الثقافة، والواجب الذي تقتضيه الحكمة، وابتغاء المصلحة العامة، وتحري الإخلاص، أن يحضر التعاون، وتختفي المغالبة، حينما يتقاطع شأن مع شأن آخر.
لأجل ذلك فمن المتوقع إذا سلمت هذه الفكرة الرائدة من أيّ خلل مادي أو إداري أو موضوعي أن تصبح القناة الثقافية الجديدة أهم رافد ثقافي عربي مرئي أو من أكثرها أهمية؛ فلدى المملكة بعد المساندة العليا للثقافة والفكر، استمداد حضاري وتاريخي وبلداني ولغوي وتراثي وديني لا ينضب، فضلًا عن تصاعد حركة النشر والمعارض والأحداث الثقافية، وكثرة أعداد المثقفين والمؤلفين على اختلافهم، وانتشار المنتديات والصالونات والمؤسسات الثقافية، وقوة الإعلام السعودي، ووجود ثراء عريض في المجال الاجتماعي بتقاليده وعاداته وأمثاله وأساطيره وفنونه ولهجاته وأدواته وملابسه وأسلحته ومطابخه ومنتجاته، وغير ذلك.
وسيكون من المعين على نجاح هذه الفكرة ما أشير إليه من ضرورة الاحتفاء الرشيد بالعراقة الثقافية السعودية، وهي عراقة أصيلة رفيعة بمثلها يفاخر. وكذلك من عوامل النجاح تحويل الثقافة والمثقف إلى أصول دائمة تجلب الاستثمار للبلد ولمثقفيه ولمؤسساته الثقافية، مثلما تفعل مواسم الحج والعمرة، وبرنامج الكتابة في جامعة أيوا، ومهرجان كان، وجائزة نوبل، ومعرض فرانكفورت للكتاب، وغيرها من الفعاليات ذات الصبغة الثقافية التي تجلب العديد من المنافع للديار وأهلها.
ومما يعين على نهوض هذه القناة المرئية والرقمية أن تستثمر ثقافة المكان لدينا؛ فهو مكان مشبع بأنواع من الثقافة عبر أطالس السيرة والمعلقات، وأيام العرب وحضاراتهم، ومدنهم وأسواقهم، وأحداثهم الكبرى، وعلى اختلاف التضاريس والعصور. ومنها توسيع إطار معنى المثقف ليشمل أكبر شريحة يمكن أن يستوعبها هذا المصطلح الكثيرة تعريفاته، ويتبع ذلك صنع نماذج للمقولة السعودية المختصر والمعبرة والحكيمة، ونشرها من أجل تعميمها وخلودها، فمن المحزن ألّا يحفظ العربي مقولات جميلة منسوبة لبني لسانه ودينه، ومن التقصير الكبير أن تخلو المقولات العربية القابلة للحفظ والتداول من كلمات سعودية، ومن أسماء سعودية، وبهذه الطريقة سوف تسري ثقافتنا على الألسن والأقلام، وتخترق حجب الممانعة، والاستعلاء المتوهم.
كذلك سيصبح من الحكمة الرجوع إلى تراث عميق عتيق من الحوارات السعودية في طرفي الحوار، أو في طرف واحد منه، ومثله البرامج الوثائقية، مع الإفادة منها جزئيًا أو كليًا. ومن الأفكار الإستراتيجية إضافة الحدث السعودي الخاص إلى ما يعرف بقوائم «حدث في مثل هذا اليوم»، وتزويد المتابعين بنبذة كافية عن الأيام السعودية، والمؤسسات السعودية المتداخلة مع الشأن الثقافي سواء الحكومية أو الأهلية أو التجارية، مع العمل على جعل «الثقافة السعودية» بجميع مكوناتها مألوفة لدى المتلقي العربي، وعند غير العرب قدر المستطاع، ولو بترجمة مكتوبة لبعض المواد.
على أن هذا الإلف المرتجى يصحبه أهمية توخي الحذر من محاولة التزين بشيء يخالف حقائقنا وثوابتنا التي لا محيد لنا عنها، فكل ما هو من ضمن نسيجنا الديني والعربي والبدوي يجب أن يغدو تلقائيًا موضع اعتزاز بغض النظر عن رأي الآخرين فيه؛ ذلك أننا لو حاولنا عكس الأمر على ثوابتهم لانقلبت نعومتهم الظاهرة إلى وحشية كانت كامنة. ويرتبط بهذا الأمر مركزية التصالح مع الماضي -أيًا كان- فلا نراه عيبًا نستخفي منه، ولا نعطي الآخرين فرصة للتندر علينا به، أو محاكمتنا بسببه؛ فلكل الأمم ماض وأخطاء واجتهادات تغيرت. وإذا فعلنا ذلك وأحسنا تقديم أنفسنا كما هي؛ فلن تطول بنا مدة إلّا وقد عدّل الآخرون صورتنا الذهنية القديمة الراسخة في عقولهم، ومن لن تنفعه الحقيقة الماثلة بنصاعة في جوانبها الباهرة؛ فلن يقنعه شيء مهما حرصنا؛ ومثله عليه لا يحرص!
كما أن هذه الفكرة الجميلة تملك القابلية للتألق بل والتصدر محليًا وإقليميًا إذا نأت بنفسها عن السير في ركاب سائد مهما كان مغريًا، وتحاشت إضاعة الجهد والوقت في محاولة استرضاء أطراف على حساب غيرهم، وسعت للابتعاد عن المماحكة أو المحاكمة، ثمّ فتحت المجال للقول الثقافي الرزين المتعدد بما يحول دون التركيز على خطاب وإهمال آخر، ويمنع تسلل الفئوية المخربة إلى العمل الثقافي، وأجلّ من ذلك ألّا تتحول الثقافة إلى وسيلة استعداء آثم، أو تجريم برئ، أو تشويه، أو تصفية حسابات، وبذلك تصير قناتنا الثقافية من الجميع وإليهم، ويصل صوتها وصورتها وخطابها إلى جمع غفير من المختلفين، ويستقبله الأكثرية بترحاب وارتياح، ويستبين منها الحسن المجلوب بتطرية أو بدون!
إن السعودية ليست نفطًا فقط، فهي قبل ذلك ومعه وبعده مهد حضارات عدة، ومنبت اللسان العربي وبيانه المنثور والمقفى، ودار أنجبت عظماء كثر في حقول شتى، ومنبع الإسلام ومأرزه، وهو الدين الذي صبغ شبه الجزيرة العربية بصبغة الله التي أرادها للناس كافة؛ فغدت قبلة المسلمين أينما كانوا، وتلك حقيقة نعيها ونستوعبها، وما أحرانا بزيادة تقديرها، وإدامة استثمارها، وتقوية الاستمساك بها، فهي قدرنا الشريف الرفيع، وكل المحيط المجاور لنا من عرب، وفرس، وترك، وهنود، وأفارقة، وسواهم، لا يستطيعون أمام هذه الخاصية إلّا التسليم وربما الخضوع، وحتى الأقوياء الأباعد ترتجف قلوب ساستهم ومؤرخيهم منها، وتشرئب أعناق عتقاء مفكريهم إلى ما فيها من علم وعقل وفضل ومعارف سامية.
** **
- أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف
@ahmalassaf