د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أمضيت عقوداً من عمري تعلّمت فيها الكثير، ونقلت بعضاً مما تعلمته إلى الكثير من الناس، وأدركت بعد كل ذلك العمر وتلك التجربة، أن استيعاب العلوم، أو نقلها إلى الآخرين أمر ممكن بقدر ما منح الله الإنسان من ملكات ومقدرات ذاتية، لكن ما صعب علي إدراكه الأمس واليوم أو بعد حين، هو عجائب تفكير البشر، والاختلافات الظاهرة والباطنة في ذلك، ولم أجد ركيزة أتكئ عليها لمعرفة ذلك، وجعله قاعدة أبني عليها التوقعات للتعامل مع النفس البشرية وغرائبها.
لقد حاولت أن أجعل المنطق ركيزة، ربما تكون منطلقاً تبنى عليه قرارات التعامل، فلم أجد أبداً أن المنطق يرسم قاعدة تحكيم للبت في معرفة بعض التصرفات أو الأفكار التي يمارسها البعض، والمنطق كما نعلم من الناحية اللغوية هو النطق بالكلمات أو الجمل، أو هو الإدراك الباطن، لكنه في مفهومه العلمي أوجه الاستدلال التي تجعل الوقوع في الخطأ محدوداً، وربما يمكننا القول إنه توافق أغلب المفاهيم البشرية حول نقطة معينة، وأول من تحدث عنه هو الفيلسوف اليوناني أرسطو، وقد اعتراه بعض التغيّرات في مسيرته الزمنية حتى وقتنا الحاضر، وبهذا المفهوم فإن الاحتكام إليه لا يشفي غليل المتلهف إلى معرفة التصرفات الغريبة لبعض البشر، وعندما نقول التصرف الغريب، فإن ذلك يعني التصرف غير المألوف وغير المنسجم مع ما الأدبيات التي يمارسها مجتمع ما.
المعتقد قد يكون مرجعاً مهماً يمكن الاحتكام إليه، ومن المنطلق الإسلامي الذي أدين به، فإنني أجد أن ذلك هو قاعدة تحكيم أساسية للحكم على التصرفات البشرية، والمصطفى صلى الله عليه وسلم جاء ليتمم مكارم الأخلاق، في قوله وفعله، والقرآن الكريم الذي نزل عليه يحمل بين ثناياه قواعد سلوكية رائعة فيها مصلحة الفرد والمجتمع في الحياة وبعد الممات، وقلما تجد سورة من سور القرآن تخلو من حث على مكارم الأخلاق بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الصبر، والرضا، والصدقة، والتسامح، والمحبة، والتكاتف، والتآلف، والسعي في الخير، وبر الوالدين، والصدق، والأمانة، والإيثار مع الخصاصة، وغيرها كثير، وفي وصايا لقمان لابنه الكثير من تلك الصفات الحميدة التي نصح ولده بها، كما أن النهي عن المنكرات مثل النفاق، والزنى، واللواط، والكذب، وخيانة الأمانة والغدر، والكبر، وأكل أموال الناس بالباطل، وعدم العدل والمساواة، وغمط الحق، والنهي عنه واضح جلي في القرآن، ومع ذلك فنجد متكبرين، ومنافقين، وكذابين، وظالمين، وخائنين للأمانة، والذين يلبسون الحق بالباطل، وكذلك نجد من يكتم الحق، ومن يبرر لنفسه اتباع الهوى في ممارسة سلوك خاطئ يستهويه.
من تلك العجائب البشرية، أولئك الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} هذا النوع من البشر يجعلون الرغبة والشهوة أساس تصرفاتهم، ويقررون السلوك أو الرأي ثم يبحثون عن المبررات لتصرفاتهم، ومن المؤسف أن أعدادهم غير يسيرة، ولهذا يمكننا القول بانطباق قول أبي تمام عليهم:
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
ومن غرائب البشر من زيّن له سوء عمله فرآه حسناً، قال الله تعالى {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وهذا كثير ما يمتطيه ويعمل به ويستهويه من يكون به مسحة من كبر، تصرفه عن النظر إلى الحق واتباعه، فهو يرى في رأيه وحده السداد حتى وإن كان رأيه قد اعتراه شيء من السوء، وقلة الصواب، لأنه يقنع نفسه أن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ ويسير على هذا النهج في سلوكه وقراراته، بما فيها تلك التي تتخطاه إلى غيره من أسرته، ومنهم أبعد من أسرته.
صنف آخر من البشر، يجادل ليس بحثاً عن الحق وإنما لإقناع نفسه قبل غيره أنه على صواب حتى وإن ظهر له الحق جلياً واضحاً، فهو لا يرعوي عن غيِّه، كما أنه لا يفهم أو لا يريد أن يفهم، وإن خاصمته فهو لا يفهم، وإن فهم فإن عقله الباطن يصرفه عن النظر إلى الحق فيستمر في الجدال والخصام، لغرض الجدال فحسب، وليس للبحث عن الحق، ومثل ذلك في الغالب سيستمر في عدم إدراك ما هو فيه، ويصعب معه التغيير إلا إذا وقع له أمر ما يؤثّر تأثيراً جلياً على حياته، مما قد يقوده إلى الصواب، والبعد عن الجدال لمجرد الجدال، يقول الشاعر:
ومن البلية نصح من لا يرعوي
عن غيِّه وخصام من لا يفهم
والجدل كان وسيلة من وسائل الفلسفة الموصلة إلى الحقيقة، لكن قد يخرج عن غايته وهو الوصول إلى الحقيقة إلى محطة أخرى غير المستهدفة، ولقد ساد في فترات من تاريخ الحضارة العالمية، وفي مجتمعات مختلفة الثقافة جداً مفيد وغير مفيد، وكان ذلك موجوداً قبل الميلاد في اليونان عصر أفلاطون وأرسطو وغيرهما، وكذلك في زمن المأمون، حيث كانت فكر المعتزلة سائداً، وكما نعلم أنه فكر له من الجدل نصيب غير يسير، ولا يمكن حصر عجائب العقول وغرائبها، وسيرها أحياناً في ركاب العاطفة والشهوة والهوى، وعدم السيطرة عليها، وما أراه أن هناك صراعاً دائماً بين العقل والعاطفة أو الهوى، فمن غلب عقله هواه أفلح، ومن خسر عقله المعركة خسر.