د. عبدالحق عزوزي
بعد إعلان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس» استعدادها «للتدخل» عسكرياً قصد إعادة النظام الدستوري إلى النيجر في حال استنفاد كل السبل الدبلوماسية، حذر المجلس العسكري منذ أيام من أي «هجوم يستهدف البلاد»، مشيرًا إلى أنه «لن يكون سهلاً على المشاركين فيه»؛ وموازاة مع هذا الإعلان، عينت الولايات المتحدة سفيرة جديدة في نيامي وفق بيان لوزارة الخارجية الأمريكية؛ وذكر البيان أن اختيار كاثلين فيتزغيبون للمنصب «لا يعكس تغييرًا في سياسة» واشنطن، ولكنه «يستجيب للحاجة إلى موظفين لديهم خبرة في هذه الأوقات المعقدة» في البلاد. والصحيح أن العديد من القوى العالمية العظمى تحاول جاهدة وضع دبلوماسيين محنكين لها في القارة الإفريقية لتدارك تأخر تواجدها هناك أو محاولة تطوير تواجدها أو استرجاع نفوذها. ونحن نتذكر أنه قبل ثمانية أشهر عقدت قمة أمريكية-إفريقية احتضنتها واشنطن، وشارك فيها نحو 50 من القادة الأفارقة؛ كما قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أربعة أشهر بجولة إفريقية بدأها من الغابون، وزار ثلاث دول أخرى هي أنغولا وجمهورية الكونغو (برازافيل) والكونغو الديمقراطية... ومنذ أسابيع عقدت قمة روسية إفريقية استضافتها سان بطرسبرغ، وشاركت فيها 49 دولة إفريقية من أصل 54.
وبالنسبة لفرنسا، فإنها تقاتل اليوم لتدارك التراجع التاريخي لها في القارة الإفريقية لفائدة دول أخرى مثل روسيا والصين... وبعد الانقلاب العسكري الأخير في النيجر، فإن خطر فقدان مكانة فرنسا في القارة بدأ يزداد بدرجة غير مسبوقة، خصوصًا أن النيجر تحتل أهمية كبيرة لفرنسا، وأصبحت أيضًا القاعدة الرئيسية للقوات الفرنسية التي تحارب المتشددين في المنطقة، بعد انسحابها من مالي...
ويتظاهر آلاف النيجريين، منذ أيام في وسط العاصمة نيامي دعماً للمجلس العسكري الذي تولى السلطة في انقلاب في 26 تموز/يوليو، وأعلن عن فترة انتقالية لن تتجاوز مدتها 3 سنوات، في حين لا يزال تهديد دول غرب إفريقيا بالتدخل عسكرياً قائماً... وكما في كل المظاهرات المؤيدة للنظام الجديد، تم ترديد ورفع العديد من الشعارات واللافتات المعادية لكل من فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس).
وكتب على لافتات المتظاهرين وجلهم من الشباب «لا للعقوبات» و»تسقط فرنسا» و»أوقفوا التدخل العسكري»، فيما أدى موسيقيون أغنيات تشيد بالانقلابيين.... وتأتي هاته المظاهرات المشفوعة برفع أعلام روسية غداة خطاب متلفز ألقاه قائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني وأعلن فيه عن فترة انتقالية لن تتجاوز «3 سنوات» وإطلاق حوار وطني.
وتعي فرنسا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، تداعيات تعزيز روسيا لوجودها في إفريقيا بشكل كبير؛ كما تفهم تداعيات إنشاء الصين لطرق حرير جديدة وبأساليب عقلانية... فروسيا تقوم بتعزيز الشراكة العسكرية مع الكثير من دول القارة السمراء بما في ذلك الكاميرون وإثيوبيا وجنوب إفريقيا وحتى مالي التي استقدمت إلى أراضيها عناصر مجموعة «فاغنر»؛ أما الصين فهي الدولة التي تشتغل في إفريقيا بصمت وذكاء خارقين؛ وأصبح لها منظور إستراتيجي متوسط وبعيد المدى... وقد نجحت في إقناع العديد من الدول الإفريقية على النسخة الحديثة لممرها الاقتصادي والتجاري؛ وتقوم بتغيير الخريطة الاقتصادية الإفريقية على جميع الأصعدة.
لم تفهم الدول الصناعية الكبرة وخاصة فرنسا، الدولة المستعمرة السابقة، تحولات النخب المدنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والبنكية والاستثمارية بل وحتى الطلابية في القارة؛ لم تفهم أن هاته النخب تبحث عن شراكات متكافئة، وعن علاقات متوازنة، وعن الندية، وعن دول لا تحمل نظرات استعلائية في علاقتها مع الآخر ولا تحمل رسائل دعوية أو قيمية؛ فلم يكتب لدول النجاح في تعاملها مع إفريقيا مثل الصين إلا لأن إستراتيجيتها قائمة على قاعدة رابح-رابح win-win... ولهذا السبب بدأت الكثير من الدول الإفريقية تطرد اللغة والثقافة الفرنسية من بلدانها والتي اعتبرتها الإليزيه منذ قرن ونصف القرن قاطرة تواجدها ونفوذها في العالم؛ ولهذا السبب ثارت شعوب دول غرب ووسط إفريقيا في توافق حكومي وشعبي ضد الوجود العسكري الفرنسي؛ وفي سابقة تاريخية قامت مالي منذ أسابيع بإلغاء اللغة الفرنسية كلغة رسمية للبلاد في تعديل دستوري؛ كما أن العديد من العائلات المغاربية لم تعد ترسل أبناءها لإكمال الدراسة في فرنسا؛ إذ بدأت تختار وجهات جامعية جديدة في أمريكا وبريطانيا وكندا وألمانيا وسويسرا؛ وتعليم هؤلاء يكون باللغة الإنجليزية.